ريف العين

ريف العين
منذ انحسار الطوفان وبدء التكوين البشري على هذه الأرض التي تسمى بلاد الشام ،أو شرق المتوسط أو هلال سوريا الخصيب، أرض كنعان ..كانت للجغرافيا السكانية الصعبة في هذه الأرض الأثر الكبير في تقسيم وتفريق تماسكها الوطني العام ،فكانت مدن بلاد الشام هي منارات جاذبة للسكان عموماً ،وهكذا ظهرت في بقعة صغيرة عدد كبير جداً من المدن ذات التاريخ والثقافة والنكهة المختلفة ...عشرات المدن أضاءت ليل أرض الشام الكبرى من أورفة إلى أنطاكيا وحلب واللاذقية وحماة وحمص وديرالزور والرقة و القامشلي ودمشق والسويداء وبيروت وصيدا وطرابلس وحيفا وعكا والقدس وبيت لحم وعمان و الكرك..وغيرها الكثير من مدائن كانت على طول الزمان وعرض المكان بقع حضارية متميزة جداً أضافت كل واحدة منها جزءاً لا ينسى من الحضارة الإنسانية .مدن لا تزال حية تنبض بأبنائها ومحيطها الغني الثري الذي يرفدها بحب لا محدود ..والذي سمي بالريف ..ذلك الريف الذي اصطلح برأيي على تسميته بذلك تيمناً بريف العين الذي يحميها ويزيدها جمالاً..

ذلك الريف الذي تحمل وضحى طوال قرون على حساب تنميته وازدهاره من أجل ازدهار وتطور تلكم المدائن ...وهاهو الريف بعد ثورات العسكر ووصولهم إلى الحكم لا يزال يعاني أشد المعاناة من مشاكل التجاهل وعدم التنمية والتطوير بل كل ما حصل من انقلابات في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين والتي بنيت (أي تلك الانقلابات) على أساس إعادة العدل إلى المجتمعات المهمشة وإعادة توزيع الثروة بناء على العدل وتكافؤ الفرص ،كل ذلك كان كلاماً بكلام وأن أسيادكم في الجاهلية هم أسيادكم في الإسلام هي مقولة تندرج في هذه الخانة..وأن المشكلة التي نظر لها الكثير من فلاسفة الوضع السياسي في بلاد الشام من أن مشكلتنا هي في الصراع بين الريف والمدينة هي نظريات غير صحيحة .

والذي اتضح حقيقة هو أن المشكلة هي من يدير الحكومة التنفيذية هو من يسرق البلد وليس من يعيش في المدينة من بسطاء وليس بالتأكيد من يعيش في الريف .

والنتيجة هي كارثة حقيقية ،ترييف المدينة بشكل افقدها كل صفاتها المدنية التي نفتخر بها والتي نفاخر بها مدن العالم وحواضره عبر العصور ،من جهة ،ومن جهة أخرى إفقاد الريف ريفيته وصفته الطبيعية الجميلة والتي كانت ميزته الكبرى التي تسلب ألباب زائريه من طبيعة ساحرة وبناء بسيط متميز بسقوف و جمالونات وطرقات صغيرة ساحرة مسورة بأشجار جميلة ..حلت محلها كتل إسمنتية بشعة وطرز معمارية غزت المدن قبل الريف ،شوهت الذائقة الفنية التي كانت المدن والريف تتغنى ،دون نسيان التلوث و التصحر و هدر الموارد البشرية والطبيعية .

فاحتلت الكتل الإسمنتية موحدة الشكل والطرز مكان الخشب والحجارة البيضاء أو السوداء التي طبعت أبنية الريف وبالطبع لم يبق من طبيعة وأشجار الريف إلا القليل القليل ،والأنهار جفت والجبال حفرت بالكسارات و التربة تلوثت و الهواء انعدمت عذوبته ..

أما المدن المسكينة فقد تخلت كل الإدارات عن طرز عمارتها بنت المكان ،مثل الأيوبية والمملوكية والعثمانية وحتى الفرنسية ..فكل من احتلنا طبع بصمته المعمارية على جدران مدننا ..وحينما حكمنا أنفسنا بأنفسنا ،دون محتل أفسدنا كل شيء..هل أتى هذا من مراهقة ما لم تتح لنا التأمل في حاضرنا ،أم هي فساد طبقة حاكمة كان جل همها هو السرقة والنهب على حساب الجماليات و راحة العين...بل والأسوأ من ذلك كان لإعادة التنظيم الذي ترافق مع الانفجار السكاني دوراً كبيراً في إزالة ما تبقى من عمارات جميلة في مدننا ..وتكفلت الحروب بالباقي ،فبيروت أزيلت والقدس وحيفا وصفد وصيدا وطرابلس و القنيطرة وحماة وحمص ودير الزور و حلب و درعا وأعيننا الآن على ما تبقى من دمشق بعد زوال ريفها بالكامل.

كل هذا من الممكن إصلاحه بصعوبة طبعاً ، وأن يعيده بدمعة وألم ..ولكن ما لا يمكن تحمله التنابذ الذي خلقته حكومات الانقلاب بين سكان هذه البلاد من شتائم وأحقاد صغيرة ،كانت بذورها موجودة خصيصاً بين أبناء هذه المدائن فيما بعضهم بفعل التنافس والتناحر نحو المقدمة في الحضارة ،وتلك المنافسة أخذت أشكالاً عديدة و ألواناً مختلفة كان أخرها هو الشكل الرياضي ..وهو بشكل من الأشكال عارض صحي من عوارض التنافس الشريف ،ولكن كان هنالك على الدوام من يعبث بهذه المنافسة لإذكاء روح سيئة في هذا السباق.ليس من أجل الوصول إلى أفضل ما لدى هذا الشعب ،بل من أجل زيادة التقسيم والتفريق بين أبناء الشعب.

جاءت الثورة وصهرت الجميع في بوتقة الألم والأمل و الحزن و الفرح وأزالت وبضربة واحدة كل أشكال الفرقة وصارت تنادي بعضها في المظاهرات وصار الريف يرسل سلاماته وتضامنه مع الجميع ،مشكلين لوحة فسيفساء ذات تقسيم عرضي أفقي وليس عامودي طائفي مقيت ..وهو أمر صحي يجب علينا ألا نخجل منه ،كما تفعل باقي أمم الأرض في التنافس بينها نحو الأفضل.

التعليقات (1)

    هاني عادلي

    ·منذ 10 سنوات شهرين
    مقال أكثر من رائع ،شكرا استاذ فارس ايها الكبير
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات