التمييز بين الإسلام وكل من التاريخ والدولة: يالثارات الحسين!

التمييز بين الإسلام وكل من التاريخ والدولة: يالثارات الحسين!
ما كان لنوري المالكي أن يختزل الصراع الجاري في العراق بقوله إن «انصار يزيد وأنصار الحسين يتواجهون مرّة أخرى»، لولا معرفته أن هذه الرواية تجد سنداً لها في المعتقدات السائدة، وأنها تلعب دوراً في شدّ عصب الجمهور المؤيّد له، وتالياً التغطية على إخفاقاته وتمسّكه بالسلطة.

الواقع أن هذه المقولة، التي يفسّر فيها المالكي صراعات الحاضر بدلالة صراعات الماضي، كأن الزمن تجمّد عند تلك اللحظة «الكربلائية» (680م)، تحيل المجتمعات العربية إلى كائنات ذات هويات طائفية صلدة غير قابلة للاختراق أو التنوّع أو التجاوز، والأهم تحويل التاريخ إلى مقدس أخر، بجعلها إياه بمثابة سيرة دينية، خارج الفحص والمساءلة والنقد، ما يترتّب عليه عملياً إخراج هذه المجتمعات من التاريخ الواقعي.

طبعاً لا تتوقّف القصة عند المالكي، إذ اعتاد نصر الله، أيضاً، ترديد شعار: «هيهات منا الذلة»، في خطاباته، في حين يحرص حزبه على احياء الطقوس الكربلائية، تحت شعار «يا لثارات الحسين». أما على المقلب الآخر («السنًي») فلا تنفك الجماعات «الجهادية» عن الدعوة إلى زمن الإسلام الأول، «المتخيّل» وغير التاريخي، حتى أنها بسلوكياتها ومظاهرها تبدو كأنها قادمة من خارج الزمان (ولعل تبني الصهيونية فكرة «أرض الميعاد»، ودعوتها إلى زمن «المملكة اليهودية»، قبل ثلاثه آلاف عام، ينضوي في إطار هذا النمط الاسترجاعي للتاريخ).

يستنتج من ذلك أن معضلة التفكير السائد في العالم العربي، لا تتوقّف على نظرته القاصرة والسلبية إلى الدولة (والحداثة اجمالاً)، باعتبارها بمثابة منجز غربي، وكجزء من التراث الاستعماري، إذ إن ذلك يشمل، أيضاً، عدم التصالح مع التاريخ، أو التعاطي معه كأنه تاريخ وافد، أو دخيل، أو آخر، وكأنه ليس تاريخنا.

والحال أن الوضع لم يعد يتطلب فقط التمييز، أو الفصل، بين الدولة والدين، لتجنيبه الاستغلال السياسي وصون قدسيته، وإنما بات يتطلب التمييز بين الدين والتاريخ، أو بين الدين والحوادث التاريخية بكونها حوادث بشر، لأفراد قد يخطئون وقد يصيبون، لكونهم بشراً. وحقاً، فهذه معضلة، إذ لا يمكن لمجتمع أو لأفراد التكّيف، مع الواقع والعصر والعالم، بالوقوف عند لحظة معينة في الماضي، من دون إحساسهم بالتاريخ، ومن دون تكوّن إدراكهم لذاتهم عبره، بإيجابياته وسلبياته، بماضيه وحاضره.

المشكلة أن اللحظة التي يجري الانشداد إليها بالذات هي لحظة سياسية، وتتعلق بالصراعات السياسية، أي أنها ليست لحظة دينية. ومعلوم أنه في العهد الأول للإسلام حصلت حوادث كثيرة، ضمنها مصرع عثمان، الخليفة الراشدي الثالث، في المدينة، على مرأى ومسمع من خيرة الصحابة، ثم كانت حربا الجمل وصفين في إطار التنازع على الخلافة بين علي ومعاوية، وبعدها مصرع الحسين الذي قاتله عمر بن سعد بن إبي وقاص في عهد يزيد بن معاوية، ثم مصرع عبد الله بن الزبير، وكلها تؤكد أن الصراع كان على السلطة، لا على الإسلام ولا على أي من مبادئه أو أحكامه. والسؤال أنه إذا كان كل ذلك حدث في عصر الإسلام الأول، ومع الصحابة، فكيف الأمر إذاً مع العهود التالية.

هذا يعني أن تاريخ دولة الإسلام، التي شيدت امبراطورية واسعة في مرحلة من الزمن، وقدمت للعالم حضارة غنية بثقافتها وعلومها، اعتوره عديد من السلبيات والمشكلات، التي أدت إلى أفول عصره. إذ مرت عليه وقتها شخصيات مثل يزيد والحجاج وأبي العباس السفاح، وشهد انقلابات واحترابات ومذابح، ثم انحسر مع سقوط الخلافة العباسية على يد المغول في القرن الثالث عشر، وبعدها حُكِم مشرق العالم العربي من الإيوبيين ثم المماليك فالعثمانيين، ناهيك عن الدويلات التي كانت تظهر هنا وهناك.

فوق ذلك، فمنذ القرن الثاني عشر، انقطع تاريخ المغرب العربي عن مشرقه، إثر انهيار الدولة الفاطمية، أي أن العالم العربي لم يكن طوال الوقت بمثابة دولة واحدة، بل كان يتألف من ولايات منفصلة، تخضع للمركز، أي لدمشق أو بغداد أو اسطنبول، كل على حدة، وكفيديرالية بمصطلحات اليوم. والمعنى من ذلك أن تسيير العالم العربي، قبل الاستعمار، لم يكن على هذه الدرجة من الكمال الذي يعتقده بعضهم أو يتخيله، وفق نظرة إيمانية تنزع إلى المثال او إلى المقدس.

ومشكلة الخلط بين الدين والتاريخ نجمت عن تماهي مفهوم الدولة السياسي بمفهوم الخلافة الديني، على حساب الدين، حيث الدولة/السلطة هي الطرف الرابح في هذه المعادلة، إذ استطاعت، بحكم هيمنتها، إخراج ذاتها من التاريخ، والحلول في المقدس.

أما التأكيد بأن الدين هو الخاسر في هذه الحالة فهو ناجم عن نفي الفقهاء لكثير من الحوادث التاريخية المؤسسة في الصراعات السياسية، في الدولة الإسلامية، أو تبريرها، أو اعتبارها مجرد «فتنة»، ربما في محاولة لتصدير صورة مثالية عن تلك الفترة، أو للدفاع عن الإسلام، بالدفاع عن بعض المسلمين، مع أننا إزاء أمرين مختلفين.

ما يؤكد ذلك، أيضاً، أن الإسلام في عهده الأول كان حرّر التاريخ من الدين، في الآية: «اليوم أكملت لكم دينكم...»، والتي تعني أنه لا يجوز لأحد، من البشر، بعد ذلك، أن يحلل ويحرّم. وقد جاءت ترجمة هذه الآية في خطبة أبي بكر، الخليفة الراشدي الأول، التي قال فيها: «أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت... أما بعد... فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوّموني». ولعل هذا هو الخطاب الذي أسس للحظة الفارقة في تاريخ الإسلام، والدولة الإسلامية، بالتمييز بين الدين والدولة، حيث يتأسس الدين على الإيمان والدولة على المساءلة والمحاسبة والتداول. بعد ذلك ربما أن مبايعة يزيد بن معاوية شكلت اللحظة التأسيسيّة الثانية، التي حولت الدولة إلى ملك عضوض، ونقلتها إلى اعتبارها مجرد شأن دنيوي، وهي لم تقتصر على مبايعة الصحابة للملك «المتغلّب» فقط وإنما مبايعة الديني للدنيوي ايضاً، وهكذا بات التاريخ مقدساً، أو كأنه جزء من الدين، والعقيدة الدينية.

الآن وفي هذه الحرب الضروس على السياسة والمكانة والسلطة، وعلى الدولة والمواطنة، والهوية، لامناص من التمييز بين الدين والدولة، وبين الإسلام وتاريخ المسلمين، لنزع القداسة عن الصراعات الجارية، والدخول في التاريخ، أو تحرير الدين من التاريخ وتحريره منه.

* كاتب فلسطيني / سوري

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات