خذلان الرحابنة جونيورز....

خذلان الرحابنة جونيورز....
طوال سبعين عاماً من العمل الفني في الموسيقى والمسرح الغنائي و الثقافي، استطاع الرحابنة تكوين امبراطورية ضخمة جداً مبنية من الفرح والتفاؤل، هذه الامبراطورية العابرة للحدود استطاعت توحيد دول المنطقة وتصويب آمالها بحدة نحو الألوان والجمال، استطاعوا و بحب استنهاض أجمل مالدى ثقافات هذه الأمة من طقوس وآمال وأفكار و مشاعر.. كانوا معهم في الانكسارات والنكسات، الهزائم و الانتصارات، في أعيادهم وصباحاتهم، مسلمين ومسيحيين بكل طوائفهم و معتقداتهم السياسية.. ومن أجل ذلك كان الأخوين رحباني اثنين من عباقرة القرن ومن كبار شعراءه وموسيقييه.. ومن هذه الثنائية والمدرسة الرائعة خرج تيار ضخم من المطربين والموسيقيين والشعراء.. ارتبطوا بالانسان والأرض قبل الحكومات والأنظمة ..غنوا لكل شعوب المنطقة، ولم ينشدوا مرة واحدة لقائد أو زعيم أو نظام ..فالعلاقة بين الشعر والقارئ لا تمر عبر فيلتر او رقيب أو حسيب، كما هي العلاقة بين الألة الموسيقية والعاطفة.

هذا الوصف، كان ولازال، وسيظل مرتبطاً بالجيل الأول من هذه العائلة التي من حظ شعوب شرق المتوسط أن وجدوا بينهم وفي ثقافاتهم... لكن الجيل الثاني من هذه العائلة والذي لم يتمرس ويتخرج من مدرسة الرحابنة بفعل العمل بل بفعل الوراثة الجينية فقط ..لم يمضي على ذات الدرب الذي مر عليه الأولون من نفس العائلة ..وأنا هنا أتجنب الحديث عن زياد عاصي الرحباني، والذي أحدث ضوضاء وجلبة كبيرة بتصريحاته الصادمة والداعمة لجهة ضد جهة، ولفئة دون أخرى.. وأتجاوزه لاشكالية موقفه الذي حدد دعمه فيه لنظام معين، للحديث عن أبناء الاستاذ منصور الرحباني.. وللحديث عن آخر منجزاتهم الموسيقية المتمثلة في أغنية (هبة طوجي) التي تنتقد الربيع العربي، والمعنونة بأغنية الربيع العربي.

تلك الأغنية التي عرضتها مجموعة من الشاشات اللبنانية والتي تفترض في كلماتها والفيديو المرافق لها أن الربيع العربي كما وصفوه قد بدأ بسبب عربة خضرة كان يقودها شاب تونسي يدعى البوعزيزي.. وكأن شعوب المنطقة هي مجموعات من الهمج بحاجة الى شرارة عنيفة كي تنفجر في أعمال عنف سببها الانتقام لشاب يعمل على عربة خضرة والتي بدورها كانت هي السبب وراء نزول المصريين الى ميدان التحرير في ثورتهم العظيمة الأولى، وبدء باقي الثورات العربية في اليمن وليبيا وسوريا والبحرين، والمظاهرات الاصلاحية التي تلتها في المغرب وعمان وموريتانيا وباقي الدول.. اختزال مجحف وقاس ومزور لحقيقة الضغوط التي مورست عبر خمسين عاماً على هذه الشعوب، منطلقين من فرضية انفجار التظاهرات بسبب عربة الخضرة وصولاً الى الاقتتال الديني الحاصل والمأساة الحالية التي تعيشها هذه الشعوب بسبب تعنت وتمسك هذه الأنظمة بمفاهيم الحكم القديمة اللاديمقراطية والرافضة للتعدد ورفضهم الاندماج في المستقبل.. ومن هنا بدأ القائمون على هذه الأغنية بمناقشة الفرضية المغلوطة وبأن ما يحدث هو ليس الربيع العربي المنتظر وهي وللمصادفة، وربما ليست بالمصادفة، هي ذات الحجج التي تسوقها هذه الأنطمة للطعن بالحراك الشعبي الذي يريد التغيير!

طبعا لم يناقش القائمون على الأغنية الظلم الواقع على الشعوب ولم يطرحوا أي أغنية أو موقف يدعم حرية هذه الشعوب وتطلعاتها للتنمية والتطور حينما كانت تتظاهر سلمياً في شوراع عواصم الدول التي احتضنت موسيقى الرحابنة ورعت أبناءهم كرامة لهم.. لم يغنوا لدم الشهداء في الشوارع ولا للمعتقلين المظلومين خلف قضبان زنازين السجون السياسية ولم يؤلفوا ولا حتى قطعة موسيقية واحدة من أجل أم ثكلى أو بنت مفجوعة على أبيها أو أخيها أو ملايين اللاجئين المتناثرين أمام العالم في مأساة مستمرة.

هم فقط يرددون رواية وسائل الاعلام الرسمية وينظرون للربيع العربي من زاوية الارهاب و الجماعات المسلحة المتطرفة.. رغم أنهم ألقوا بجملة سريعة في الأغنية تتحدث عن حق الشعب في الحرية، ولكن ليس بهذه الطريقة التي اختارتها الشعوب الرافضة، دون أن يحددوا الأسلوب الأمثل برأيهم كي يدلوا هذه الشعوب على درب تقرير المصير.. ولحسن الحظ أنهم لم يطلبوا من هذه الشعوب أو من الذين خرجوا من هذه الشعوب أن يعودوا إليهم ويستشيرونهم في الطريقة الأمثل لنيلهم حريتهم.

غالباً تلك الأغنية لا تستحق أن يكتب عنها ما كتب فهي ضعيفة موسيقيا وشعرياً، ولكنها حركت فيما حركت من مشاعر السخط، حركت عتباً على جيل الأبناء ممن نسوا أن أبائهم غنوا للشعوب وليس للأنظمة أو افكار الأنظمة، غنوا للجميع وليس لوجهة نظر.. لعل القائمون على الأغنية نسوا أن هنالك الملايين الكثيرة ترفض فكرة ما قدموه.. وربما من هنا جاءت الخطورة فإسم الرحابنة هو اسم ذو مصداقية أينما وضع في الموسيقى، ومن هذه النقطة بالتحديد فإن اقحامه في فرض وجهة نظر تعتقد بأن الربيع العربي هو نقمة وليس نعمة، وبأن الدماء المفرطة في الفيديو كليب للإيحاء بأن الحروب التي تمر بها المنطقة نتيجة الثورات، هي بسبب طلب هذه الشعوب للحرية وليس بسبب رفض الأنظمة الانحناء للشعوب، وبأن من يقتل الآن باسم الدين في الشوارع العربية قتل بسبب العنف المفرط الذي استخدمته الأنظمة وبسبب القتل الذي توجه الى صدور الناس التي نزلت الى الشوارع والتي دفعت الى حمل السلاح في وجه عنف ممنهج مورس ضدها، ربما نسوا بأن الثورة الفرنسية احتاجت مائة عام لتصل الى غاية الحرية، وبأن الربيع العربي هو مؤامرة و ليس غلطة من الشعوب، هي محاولة منهم في تغيير وتكريس هذا الرأي في عمق اللاوعي لدى المستمعين، لا بل هو مشاركة ذكية منهم في تدعيم رواية هذه الأنظمة التي عملت طويلاً وكانت واعية جداً لأهمية اللعبة الاعلامية والثقافية في المساهمة في تقويض فكرة الثورة والتغيير لدى هذه الشعوب التي كبرت وعاشت على أفكار عاصي ومنصور تلك التي طويلاً قالت بأن الشعوب دائماً على حق وبأن فكرة الحرية هي أكبر من اي فكرة أخرى، وبأن المتظاهرين الذين يتحينون الفرصة للنزول إلى الشارع سيرددون مجدداً أغاني الأخوين الآباء الخالدة: (طلعنا على الضو، طلعنا على الحرية).. وسيستمعون بالسر إلى مسرحية (جبال الصوان) و(ناطورة المفاتيح) حيث تبقى ناطورة المفاتيح وحيدةً مع الملك في البلد الذي غادره شعبه كله رفضاً للظلم ولفقهاء الظلم.

الحرب موجودة، نعم، ولكن سببها ليس تلك الشعوب التي تطلب التغيير، بل سببها تلك البيئة الحاضنة للظلم والقهر والنخب التي تروج لأنظمة لا تقبل التغيير.. ولعل بعض المثقفين العرب واللبنانيون يظنون بأنهم اذا تحدثوا الفرنسية وكتبوا عبارت لغوية مقعرة وألفوا قطعاً موسيقية أوركسترالية، يظنون بأنهم أحرار، لكن أود تذكيرهم بعزرا باوند الشاعر الأميركي الكبير والذي ساند يوماً موسوليني حتى النهاية رافضاً حراك شعبه ضده.

التعليقات (2)

    عبد الرزاق عبيد

    ·منذ 9 سنوات 9 أشهر
    السؤال الذي يطرح نفسه هو مامبررات موقف جيل الرحابنة من الثورات العربية؟ هل باعت تلك الفئة نفسها لأنظمة الاستبداد وتبنت وجهة نظرها في الصراع الدائر بينها وبين شعوبها من أجل الحرية والكرامة والعدالة والتعددية؟ أم مرده إلى المخاوف التي تنتابهم من الجماعات المتشددة التي نجح النظام في تقديمهم كبديل له في حال سقوطه؟ وهل يعتقد زياد الرحباني على سبيل المثال بأن سوريا بدون أسد ستكون سوريا القاعدة وداعش وليست سوريا الديمقراكطية التعددية؟؟ أسئلة محيرة لاتعفي الثورات من تقصيرها في تقديم صورتها الحقيقية.

    ام أحمد

    ·منذ 9 سنوات 9 أشهر
    هل نسوا ام تناسوا احتلال سوريا للبنان و موقفمم المعارض منه ؟؟؟!!
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات