في ظل هذه العقلية، نشأت أجيال عربية، تبنت هذه النمطية من التفكير، وقد ساهمت الأساليب الديماغوجية التي تتبعها هذه الأنظمة الشمولية في اللعب على هذا الوتر، فكانت النتيجة هي الحاكم الأوحد، الذي لا يمكن لهذا البلد أن يستمر في الوجود بدونه..كل ما سبق ذكره، أسهم في إيجاد ظاهرة منحبك التي تصلح لكل زمان..وكل مكان..وكل حاكم في عالمنا العربي.
غير أنه من الغرابة بمكان، أن أجيالاً قامت للتمرد على هذه النمطية من التفكير المدجن، ممن انتفضوا ضد استبداد الحاكم الأوحد تحت مسمى "شباب الربيع العربي" أن يعودوا لتكريس هذه العقلية ولكن ضمن لبوس جديد، يعتمد الخطاب الديني بدل الخطابات السياسية الرنانة، ويلتجئ إلى ديماغوجية من نوع جديد، تعتمد هذا الخطاب، من خلال التقاط صور لهم وهم يؤدون بعض الشعائر الدينية، بدلاً من الأغاني الحماسية التي كانت فيما مضى تستثمر لصالح زيادة رصيد شعبية هذا الحاكم!
من هنا، لم يكن مستغرباً ما قام به السوريون اللاجئون في مصر من ممارسات احتفالية فرحاً بفوز "محمد مرسي" في الانتخابات الرئاسية المصرية قبل قرابة العامين، وخروجهم بتظاهرات احتفالية ابتهاجاً بوصوله إلى سدة الحكم إلى جانب "أشقائهم المصريين" الذين هم في الغالب من الطيف السياسي ذاته؛ لم يستجب السوريون وقتها للنداءات المتكررة التي أطلقها الكثيرون بأن ما يحصل في مصر هو شأن داخلي، وأن تواجد السوريين في الميادين العامة للاحتفال بوصول مرسي، أو التظاهرات التي خرجت ضد الطيف الآخر من المجتمع المصري ممن لا يؤيدون مرسي، يسيء لشكل الديمقراطية في مصر، وأنه قد يفقده شعبيته ويسهم في تكريس الشحن العاطفي الممارس ضده، غير أن كل هذه النداءات لم تلق أذناً صاغية لدى الكثير من السوريين، لربما بسبب توق البعض إلى الاحتفال مع الآخر بعد أن حرموا في بلادهم من هذا النوع من الترف، أما الطيف الآخر فقد ساهم في شحن السوريين بشكل أكبر، والزج بهم في هذه المعمعة، ولكن عن قصد هذه المرة، فالأجندات السياسية كانت تقتضي أن يتم تأليه مرسي، وحتى "التشبيح له" في بعض الأحيان!
كانت النتيجة أن السواد الأعظم من المصريين اعتبر أن السوريين لم يحترموا آداب الضيافة، وأن ولاءهم يجب أن يكون للشعب الذي تعاطف مع معاناتهم واحتضنهم، بدلاً من الحاكم الذي لم يكن ليملك شيئاً من أمره لو لم يكن هذا هو موقفهم من السوريين كشعب، تماماً كما اعتبر السوريون أن بعض اللبنانيين ممن انخرطوا في تأييد "بشار الأسد" جاحدين لمعروف الشعب السوري الذي فتح بيوته لاستقبالهم إبان حرب تموز 2006، وأن "بشار الأسد" ليس هو من فتح بيته لهم!
إلا أن السوريين لم يتعظوا مما حصل معهم في مصر بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بمرسي، فخلال أقل من عام شهدت تركيا استحقاقين انتخابيين، أولهما هو الانتخابات البلدية التي قد يعتقد البعض غير ذات أهمية، إلا أنها تلعب دوراً مهماً في حياة الدول الديمقراطية، لأنها تشكل مؤشراً حقيقياً لشعبية الأحزاب المساهمة في صناعة الحياة السياسية في هذا البلد، وبالطبع ..وجرياً على العقلية التي تربى في كنفها السوريون على امتداد فترة تربو على الأربعة عقود من تأليه الفرد، فقد انخرطوا في العملية الانتخابية وراح كل منهم يدلو بدلوه حول الأحزاب المشاركة، لدرجة أنه تم استبدال اسم حزب العدالة والتنمية التركي "AK PARTY" باسم "حزب أردوغان"، الأمر الذي لم يرق لمؤيدي أردوغان ومعارضيه ممن اعتبروا هذا الموضوع يشكل انتكاسة في العملية الديمقراطية في البلد!
وما زاد الطين بلة، هو انخراطهم في التظاهرات والتجمعات الانتخابية وترديدهم لهتافات استفزازية من قبيل "شبيحة ..هير زمان..لأجل عيونك ..أردوغان"، في العديد من الأقاليم التي توجد فيها معارضة شرسة لحزب العدالة والتنمية كهاتاي ذات الأغلبية المؤيدة لحزب الشعب الجمهوري، وغازي عينتاب التي ينتمي عدد لا بأس به من سكانها لحزب العمال الكردستاني، ما أثار نقمة السكان ضدهم، فضلاً عن تضرر المصالح الاقتصادية للأتراك بسبب العدد الكبير من النازحين السوريين، الأمر الذي أدى إلى انخفاض أجور اليد العاملة نتيجة العمالة السورية الوافدة، ما زاد من احتقان الشارع التركي.
فضلاً عن استهداف النظام بشكل متكرر لبعض الأهداف الحدودية كتكرار سقوط قذائف في مدينة الريحانية الحدودية، التي أصبح عدد السوريين فيها يساوي عدد المواطنين الأتراك، والتي تعرضت في العام الماضي لحادث تفجير سيارة مفخخة، تبين فيما بعد أن المسؤول عن هذا التفجير هو "مهراتش أورال"، والذي يعرف في سوريا باسم "علي كيالي"، المسؤول عن مجازر البيضا وراس النبع في مدينة بانياس السورية، غير أن السواد الأعظم من الأتراك اعتبروا أن وجود السوريين هو السبب الأساسي لتعرضهم لهذه الحوادث..ما ساهم في اتساع الفجوة.
في غمرة كل هذا، تأتي حوادث فردية لتزكي مشاعر التذمر التي تعتري الأتراك، فتتحول إلى ردود فعل ناقمة على سلوكيات البعض ممن لم يراعوا أن تركيا هي بلد المواطنين الأتراك، وأن تصرفاتهم الشعواء ستنعكس سلباً ضد أكثر من مليون مواطن سوري هربوا من سعير الحرب في بلادهم، والتجؤوا إلى تركيا.
وتأتي بعض الفئات السورية المقربة من الحكومة التركية، من أصحاب التيارات الإسلامية، التي لم تقدم أي شيء لقضية السوريين، لتكيل لهم التهم وتتهمهم بأنهم شعب متخلف على عكس الأتراك "الشعب المحترم الكادح"، علماً أنهم من خلال بلطجتهم السياسية، واستباحتهم سوريا قبل إساءاتهم المتكررة في تركيا وسرقة أموال الإغاثة المخصصة لنجدة السوريين، الذين اضطر بعضهم إلى التسول وتشويه صورة السوريين أمام مضيفيهم، هم المسؤول الرئيسي عن هذا الشحن العاطفي ضد السوريين، خاصة من خلال الضخ الإعلامي وتحكمهم بمفاصل حياة المواطن السوري في تركيا من إغاثة، وتعليم، وحتى رعاية طبية!
هؤلاء أنفسهم، من خلال حملتهم الإعلامية البغيضة تلك، من سولوا على سبيل المثال لمواطن تركي أن يتطاول على امرأة سورية لمجرد أن أحد المواطنين السوريين ممن يلوذون بها عجز عن دفع الإيجار، وبدلاً من محاولة رأب الصدع وتبيان أن الحادث فردي، راحوا يحشدون الرأي العام التركي ضد السوريين "المتسولين" والفتيات السوريات "المتبرجات". وهم نفسهم من دفع بالشبان إلى المظاهرات "للتشبيح" وتجاوز آداب الضيافة تحت عنوان "شكراً أردوغان"، تماماً كما فعلوا سابقاً في مصر، وحشدوا السوريين في ميدان رابعة، فكانت النتيجة أن ضاق المصريون ذرعاً بهم وتغيرت المعاملة بشكل كلي من قبل المجتمع المصري بكافة أطيافه.
ما لم يتنبه له الجميع أن السوريين المتواجدين في مصر موثقون لدى مفوضية الأمم المتحدة بالاسم، وأن أي حادث سيجري لمواطن سوري يمكن متابعته قانونياً، أما السوريون المتواجدون في تركيا فهم "ضيوف"، وكثير منهم لا يوجد مستند قانوني يثبت تواجده على الأراضي التركية، وبالتالي في حال تعرضه لأي حادث من قبل مواطن تركي، فلا مجال لمقاضاة هذا التركي، وتبقى الإشارة إلى أن الأتراك كما هو معروف عنهم متحيزون لمواطنيهم حتى وإن تجاوزوا على القانون!
التعليقات (10)