شكّل انقلاب حزب البعث في الثامن من آذار عام 1963، واحداً من أسوأ التحولات في تاريخ المدينة... فعلى الصعيد العسكري، بدأ الانقلاب الأسود عهده بتسريح ضباط الجيش من أبناء العائلات التقليدية وعلى دفعات متتابعة. ويذكر حازم صاغية في كتابه (البعث السوري: تاريخ موجز) أن نظام صلاح جديد بعد انقلابه الثاني في شباط 1966، سرحّ : " 400 ضابط ورسمي من الجيش والإدارة مسمياً حافظ الأسد وزيراً للدفاع، على أن يتولى صلاح جديد الإمساك بالمنظمات الحزبية وقيادتها، وكان يكفي أن نضيف هذه الدفعة إلى الدفعات التي تتالت منذ 8 آذار 1963 شاملة الضباط المحترفين من أبناء العائلات التقليدية"
ومن استهداف المؤسسة العسكرية، إلى استهداف المؤسسة الدينية، تابع الأسد بعد انقلاب السادس عشر من تشرين 1970 ما بدأه أستاذه الطائفي صلاح جديد، فكانت أولى محطات معركته المفصلية دستور عام 1973، الذي كرّس حافظ الأسد فيه نفسه، حاكماً مطلقاً فوق المحاسبة، وفوق السلطات الثلاث... وقد خاض رجال دين حماه ودمشق، معركة شرسة ضد هذا الدستور، فكانت خطب الشيخ حسن حنبكة الميداني في نقده، ثم محاججة الأسد في مسألة دين الدولة، من أدبيات المواجهة الحية، بين مؤسسة دينية لم تدجن بعد، وبين سلطة تريد ابتلاع وطن بكل مؤسساته. وكان لحنبكة تاريخ مشهود في عدد من الصدامات مع سلطة البعث قبل ذلك، أبزرها ما جرى في المسجد الأموي عام 1965 <وإن لم يشارك فعلياً في الاعتصام الذي انتهى باقتحام دبابات البعث لصحن المسجد> بسبب التأميم التعسفي والاستيلائي الظالم، الذي كان في ظاهره، تطبيق لسياسات الاشتراكية، وفي جوهره، محاولة لتهميش النخب الاقتصادية المدينية السنية في دمشق وحلب وغيرهما من الحواضر السنية المركزية في سوريا.
أسمع من تتحدث عن تراث جدها الشيخ أحمد كفتارو، بنوع من الاعتزاز إما المكابر أو الجاهل بالدور الذي لعبه مفتي الجمهورية الراحل، الذي قضى أربعة عقود بالتمام والكمال في منصبه، يخدم فيها مشروع حافظ الأسد التهميشي لدور دمشق ونخبها... ولحركة الدين الإسلامي التنويرية الفاعلة فيها، ويبارك جعل الدين مطية لحاكم مستبد ارتكب المجازر وملأ السجون بالمعتقلين... ولعل أبلغ اختزال لـ "مآثر" الشيخ كفتارو ما كتبه عنه البروفيسور الراحل فؤاد عجمي في كتابه (التمرد السوري) حيث يقول:
" طوّع حافظ الأسد المؤسسات الدينية السنيّة لتكون تحت إرادته. فأعطى الفقهاء ميزة، ولكنه حدّ من دورهم السياسي. أكد الفقه السني على طاعة الحاكم وتحاشي الفتنة. وتقيّد الفقهاء السنة الذين عينتهم الدولة بذلك المبدأ. كان مزاج الجهاز الديني الرسمي قد شكّله رجل من نقابة رجال الدين، والذي تم تعيينه مقتياً أكبر للجمهورية عام 1964 يدعى أحمد كفتارو (1915 -2004) والذي بقي في المنصب أكثر من أربعة عقود، وترقى في منصبه من خلال الرعاية السياسية، ولم يحظ بتعاطف أقرانه في المؤسسة الدينية. في عام 1971 أقدم على خرق فاضح غير مسبوق للمتعارف عليه حين قبِلَ تعييناً في البرلمان. وقد قدم للنظام وسيده العلوي الشرعية والدعم الذي احتاجه. ففي عام 1991 أعطى الإعادة الروتينية لانتخاب حافظ الأسد مسوغاً غير عادي واصفاً إياه بأنه: التزام وطني وواجب ديني" .
هذا إذاً حال المؤسسة الدينية الدمشقية بعد هجرة علماء أفذاذ أمثال الشيخ علي الطنطاوي، (خرج عام 1964) والشيخ محمد عوض (خرج عام 1980) ثم رحيل رجال قالوا كلمة حق في وجه سلطان جائر، أمثال (حسن حنبكة الميداني) و(عبد الكريم الرفاعي) ولعلي حين أقرأ كلمات الشيخ علي الطنطاوي في كتابه عن الجامع الأموي، الذي أصدرته وزارة الأوقاف عام 1960، وعن دوره وحيويته وحضوره في حياة دمشق... أرى نقيض ما آل إليه هذا الصرح الذي كان عنواناً للحراك الإسلامي المتنور، والاحتجاجي في وجه قوى الاحتلال ثم الاستبداد السياسي والأمني، قبل أن يفرغه حكم البعث ثم الأسد، من حيويته ومعناه.
فقد كتب الشيخ علي الطنطاوي يصف الدور الاجتماعي لأموي دمشق الخالد بالقول:
"كان مدرسة دمشق، فيه الحلقات يدرس فيها كل علم، وكان النادي يجتمع فيه الناس كلما دهم البلد خطبٌ، وكان الأموي في عهد نشأتنا الأولى لبُّ دمشق، فكانت الدار القريبة هي القريبة من الأموي، والبعيدة.. البعيدة عن الأموي. وكانت الأرض الغالية هي التي جاورت الأموي، وكان الأموي ملعبنا ونحن أطفال، ثم كان مدرستنا التالية ونحن طلاب، ندخله إذا انصرفنا فنصلي فيه، ونقف على حلقاته، وما كان يخلو وقت فيه من حلقة أو أكثر... وكنا نتبوأ مقاعدنا في بعضها، نأخذ الفقه والحديث واللغة والنحو، وكنا نؤمه في عشايا الصيف مع آبائنا، نتخذ من صحنه منتزهاً وأنسا، وكنا نؤمه في ليالي الشتاء، نتخذ من حرمه ملجأ وأمناً. وكان الأموي مثابة للجهاد الوطني على عهد الانتداب، فيه تلقى الخطب، وفيه تعد المظاهرات، ومنه تسري روح النضال في الناس، فكان للدين والدنيا، للعبادة والعلم، ولكل ما فيه رضا الله ومنفعة الناس";
فأين هذه الصورة، من حال الأموي في العقود الأخيرة، حين كان على الشيخ الجليل الدمشقي عبد الرزاق الحلبي، الذي كلف بإدارة الجامع، أن يلقي دروسه في جامع (القطاط) الصغير في حي القيمرية، بعد منع التدريس في الأموي رغم تسمية الحلبي شيخ الجامع الأموي عام 2005... وأين من هذه الصورة، صورة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وهو يلقي خطبه المناصرة للطغيان في بداية الثورة حيث سمح له باعتلاء المنبر الأموي لإضفاء رمزية تاريخية، فوقف مصلو الأموي محتجين على إفكه، ثم خرج البوطي بحماية حرسه الخاص خوفاً من غضبه جمهور المسجد الذي كان يهتف للدم النازف في درعا... والذي شهد صحنه ضرب واعتقال المتظاهرين وشتم خالقهم، ثم سرعان ما استُبدل من جديد بجمهور من المخبرين وكومبارس الأمن!
أي مؤسسة دينية يجب أن يسوقها الأموي أو غيره... إذا لم تهتف بكلمة حق في وجه سلطان جائر... ومتى؟! ليس في زمن الصمت حيث يمكن أن تضيع الصرخة في واد، بل في زمن دفع السوريون فيه تضيحات لم تقدمها ثورة في التاريخ الحديث، كي يظفروا بالكرامة، وكي ينشدوا العدل والحرية، في دين كانت إحدى أجمل عبارات فاروقه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"
إنني أنتمي لهذا الإرث الدمشقي المعتز بهوية دمشق الإسلامية ودورها... الإرث الذي جعل كتب علي الطنطاوي – حتى الأدبية منها- ممنوعة في دمشق في السنوات الأخيرة، والذي دفع الطغاة لمحاصرة التعليم الديني الأهلي الذي كان عنوان حيوية المجتمع الدمشقي المدنية، فخرّجَ علماء ورجال دين، ولم يخرّج "إرهابيين" كما يُفترى عليه الآن على شاشة تلفزيون (جهاد النكاح)!
إنني أنتمى لدمشق التي أعرف كم تخلفت وهمشت في عهد حكم الأسدين، فخلت من رجال الهمم والعزم والمكرمات، وصار وجهاء دمشق في السياسية والتجارة والمؤسسة الدينية، أجراء لا شركاء... وتجارها خدم للمافيا العلوية لا يمتون لأخلاق دمشق وتراثها التجاري العريق بصلة... صاروا مجرد واجهة، أنتجها الزمن الرديء للاستهلاك!
لم يكن هذا حال دمشق وحدها، بل كان قدر سورية كلها، فقد هتفت حماه لجزارها مراراً تحت وطأة القهر، وكانت درعا خزان ولاء بعثي للأسد، وقابلت حلب النظام الذي ارتكب فيها مجازر بشعة بالسمع والطاعة... وعانت إدلب تهميشاً انتقامياً رغم خزانها البشري والزراعي الهائل، لكن القدرة على العيش بلا أمل قد نفذت... والعيب كل العيب أن نبقى كذلك في زمن الثورة.
لقد قامت الثورة لتضع كل الصامتين ومروجي ثقافة الخنوع على المحك، فـ "الآن حصحَص الحق"... وليس مقبولا تصدير أي نخب، (حقيقة كانت أم زائفة) تفتح باب التفريط بالحقوق... لا باسم دمشق، ولا باسم الله!
لن تستعاد دمشق بالتفاوض... ولن يخرج تيمورلنك العصر من قاسيونها بالحوقلة والبسلمة وخشخشة المسابح في الأيدي المستعدة للمصافحة، بحجة أن سورية فوق النظام والمعارضة؟! فهل كان من ذبحوا في كرم الزيتون والحولة والقبير والبيضا "معارضة" وهل البيوت التي أحرقتها البراميل في حلب ودرعا ودير الزور، هي بيوت "معارضين يبحثون عن مناصب" ويجب علينا الآن القول لهم: اتركوا صبينتكم واجلسوا حلوها مع النظام؟!
كيف يكون الحوار مع القاتل حلاً... وذكرى مجزرة الكيماوي في غوطتي دمشق تدق ضمائرنا، تسائل من يتلبسوّن بالدين: هل ستتفاوضون على أرواح أكثر من ألف وأربعمائة شهيد قضوا غيلة وغدراً وهم نيام في بيوتهم اختناقاً؟! أي فاشي نازي يجرؤ على القول: سوريا أهم من القصاص لهؤلاء... وفوق هؤلاء؟!
قولوا لنا كيف... وعلمونا كيف يكون كل هذا التفريط "حلا" ولن نقول "حلاً مشرفاً"كي لا يلعننا التاريخ قبل أن يصبح (عارنا) تاريخاً!
*رئيس تحرير (أورينت نت)
التعليقات (29)