الأمركة: حلم الثقافة وخيبة السياسة!

الأمركة: حلم الثقافة وخيبة السياسة!
لم يعد مجديا في هذا الزمن اختبار الثقافة، خارج حقل الصراع السياسي. أمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحاول ضبط معادلة الزمان والمكان على هذا الكوكب، لم يعد هنالك مكان في هذا العالم لا يوجد لامريكا حصة فيه.

مبعوث امريكي في كل مناطق النزاع في العالم. سفير امريكي في كل دول العالم الصغيرة منها والكبيرة، فوقهم سفراء فوق العادة لمناطق ذات نظم اقليمية معقدة. الشرق الأوسط، شبه الجزيرة الكورية وجنوب شرق آسيا، افريقيا بكل مناطقها، أمريكا اللاتينية، دول اوروبا الشرقية، القارة الهندية المدللة امريكيا. كل سفير من هؤلاء إما مقرر او مشارك وقلما يكون

مراقبا، فما بالنا أن يكون حياديا في فض نزاع ما.

أمريكا هي من فرطت عقد الاتحاد السوفييتي وفرطت عقد يوغسلافيا والسودان، وأمريكا لها يد أيضا في عدم انتخاب رئيس للبنان. النزعة الاستقلالية في امريكا اللاتينية، تواجهها امريكا بادوات سلمية، ليس كما السابق انقلابات واحيانا احتلال او شبه احتلال. الزمن الامريكي لا يمكن ان يكون دون تنضيد للمكان، تراتبية نظام دولي أمريكي. مع ذلك العالم لم يضق ذرعا بأمريكا. ربما من زاوية المثقف شيئ يدعو للاختناق.

"الامركة" أول مرة قرأت هذا المفهوم عند المفكر السوري مطاع صفدي. منذ ثلاثة عقود تقريبا على ما أذكر. حتى قبل سقوط السوفييت. جعل العالم أمريكيا. الامركة التي رفضها المفكر السوري آنذاك، قطعت شوطا منذ ذلك التاريخ وحتى الآن. هذه لم تعد تحتاج إلى دليل. السؤال السريع هل لدى أمريكا حلفاء أم شركاء أم تابعين أم حياديين كسويسرا والنمسا؟

في كل ما جرى من أمركة أين موقع الثقافة؟ عندما يتسلم أي شخص امريكي منصب وزيرا للخارجية، يجد أمامه لو أراد عشرات الالوف من الوثائق ربما عن كل دولة، عن كل منطقة نزاع. تراكم الخبرة في سياق الأمركة. في الخارجية الامريكية كل لغات العالم. تراكم الخبرة متناسب مع تراكم القوة والهيمنة والسيطرة والشراكة والتحالفات ومتابعة التابعين!! وربما أكثر.

لم تعد الأمركة هي الولايات المتحدة الامريكية. هي نمط حياة وثقافة وسياسة واعلام ومصالح تخترق كل دول العالم. هذا الاختراق-الامبراطوري- لا شبيه له ولم تعرفه البشرية بتاريخها.هوليوود وول ستريت البيت الابيض الايباك البنتاغون السي ان ان مكدونالد حتى البيتزا الطليانية صدرتها أمريكا للعالم!! هذه اسماء تتردد في كل دول العالم. مقارنة بالاليزيه او الكرملين او دواننيغ ستريت...الخ يستيقظ المهتم بالعالم يسأل ماذا كتبت الواشنطن بوست او النيويورك تايم؟

المركب العسكري النفطي أو الصناعي أو المعلوماتي في كل دولة وفي كل بيت في هذا العالم. حتى في قم او في مكة أو القدس أو بكين. كل زعماء العالم المنتخب ديمقراطيا والديكتاتور والمجرم منهم كحال سورية لديه عين ثابتة على واشنطن. لو كتب كتاب( صدام الحضارات) أي مثقف غير صاموئيل هنتيغون لما اهتم به أحد في هذا العالم، رغم أن الفكرة لم تكن جديدة ولا من اختراع هنتيجون وهو نوه للمفكر المغربي المهدي المنجرة بذلك. اهم من كل هذا وذاك اللغة الانكليزية. حضور اللغة الانكليزية بنسختها الامريكية، حضور داخلي في كل بلد وكل فرد برموزها الامريكية، ودلالاتها الامريكية ايضا. أي دبلوماسي في أي وزارة خارجية عليه ان يتقن الانكليزية. من الجهة الاخرى الهيومن رايتس ووتش والغرين بيس والثينك تانك وفروعها المنتشرة في العالم، التي تزود اصحاب القرار بخبراتها ومعارفها. هذا الاستعراض لأي مثقف يساري او قومي أنه خانق، ربما بعضنا لايعترف به. خانق لأن هنالك نقلة حدثت في الراهن، هي احتواء السياسة للثقافة، واصبحت السياسة معطى اكاديمي أيضا.

حتى أن هذا التناغم في الحيز الامريكي قل نظيره، من يتابع هوليوود من جهة ومواقف البيت الابيض من جهة أخرى، يجده بدون كثير عناء.

عندما يتمرد مخرج ما أو فنان يصبح خارج اللوحة الهوليوودية. ليس لأن هنالك مؤامرة، او تدخل من أصحاب القرار السياسي، بل لأن صاحب رأسمال أو المنتج لا يغامر معه بعد تمرده. في أحداث غزة مثلا شاهدنا امثلة كثيرة عن فنانين اعتذروا عن تعاطفهم مع شعب غزة. القرار أن غزة ليست شعب (حماس). بغض النظر عن ممارسات حماس السياسية التي لا نتفق معها، لكن غزة شعب أطفال ونساء تقتل ومنازل تدمر.

أحلام المثقف تذروها السياسة في تلاطم أمواج مصالحها وتناقضاتها وقواها. لهذا انتشار الخيبة في الثقافة أمر منتشر حتى الثمالة كما يقول الشعراء الخائبين، جماعة كاس العرق والشتائم. المشايخ الذين يخرجون على الإعلام والفضائيات، ما كان لهم ان يعرفوا لولا هذا الإعلام، لكن السؤال من يتبرع لهؤلاء المشايخ من أجل نشر لغوهم؟ انه السياسي. من باب الجدوى لشعب يذبح يوميا، أن يهضم المثقف خيبته. وتصبح معادلته "خيبة الثقافة وأمل السياسة". لأن السياسة هي من تحيط بنا من كل جانب، إنها أمريكا. بدون التعاطي مع هذه الامريكا سياسيا يصبح المرء بلا أمل. شيئ من العدم يحيط به.

عندما فككت أمريكا الاتحاد السوفييتي، انهارت أحلام آلاف من المثقفين وملايين من السياسيين طبعا. لهذا تجد منهم وبدلا من نقد ذاتي لنفسه وثقافته التجأ لكي يحتمي بالبوط العسكري أي بوط عسكري من أي نوع كان. إنها أمريكا في الثقافة والسياسة بغير ذلك نصبح كمن يريد اللجوء لداعش او للاسد. رغم تغطيتها لما حدث لشعبنا السوري وما يحدث من جريمة على يد الاسد وداعش. نعم خيبة الثقافة وأمل السياسة. هذه أعتقد يجب أن تكون معادلة المثقف في سورية. هذه المعادلة تعيد للفكر النقدي احقيته ضمن الحقل السياسي.

التعليقات (2)

    صحفي من تشرين

    ·منذ 9 سنوات 8 أشهر
    أكثر شي مأساوي أنكم جعلتم من بعض الأقلام المأجورة تشتغل بالفكر السياسي، لو كانت الأمور كما كانت ماكنت تحلم بمقال بجريدة تشرين

    غسان المفلح

    ·منذ 9 سنوات 8 أشهر
    إلى صحفي من تشرين معك حق بس طالما انت صحفي بتشرين كما تقول لماذا لا تكتب باسمك الصريح.. مادام نحن مرتزقة وانت صحفي في تشرين!!!!
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات