كان ممنوعاً من وجهة نظر (علمانية ) كاذبة، ربما كان لهذا المنع إيجابيات ولكنه حكماً عزز الخوف الطائفي المستتر لدى جميع الطوائف.. فالنظام السوري اعتمد على منع الاحصائيات والأرقام، التي تكون عادة فاتحة لأي تحليل منطقي لأعداد ونسب وتناسب الطوائف، وبالتالي صناديق الانتخابات.. ومنه إلى البرلمان فالقوانين التي تنظم هذه الانتخابات.
ولكن النظام كان على علم بهذه الاحصائيات السرية والتي كانت تقوم بها هيئة الاحصاء العامة في دمشق من جهة، والأجهزة الأمنية من جهة أخرى. النظام كان دقيقاً جداً في هذه النقطة، لا بل هو قام بترتيب البيت الداخلي كله اعتماداً على هذه الارقام والاحصائيات.. نسب التوظيف، نسب البعثات، الجيش، المدراس الحربية، مجلس الشعب الخ.
وكان على الدوام يعتمد على منع الحديث بهذه الخطة السرية التي يعلمها الجميع ولا يتكلمون بها، لكنها جاءت على الدوام على حساب الشعب الذي يتكنى بعامة الناس.. ذلك الشعب الذي لا تخشى سوى من العوز والفاقة.
الإحصائيات والنسب كانت لا تخرج إلى العلن، بسبب الحرص الكبير على عدم وجود حالة جمعية قطيعية تجمع الناس في ظل غياب العمل السياسي والحزبي والاجتماعي ..وهو ما حصل بعد الحراك الشعبي في 2011.
حينما بدأ الحراك الشعبي في سوريا، نزلت الجماهير الى الشوارع ،فدفع النظام بقواته لصد المتظاهرين السلميين ،فتسلح المتظاهرون ،وتقدموا،فاستعان النظام بالميليشيات المسلحة من ايران والعراق ولبنان ، فانقلبت الموازين، وأصر على طرح تلك المعادلة الطائفية التي كانت تشغل باله على الصعيد الوجودي والانتخابي، و نتيجة للضغط النفسي الحاصل من فكرة الهزيمة الشعبية، تحولت المناطق التي تعيش النزاع المسلح الى بيئة حاضنة للتنظيمات المتطرفة السنية ، ليس حباً فيها وانما اعتقاداً من الناس بأنهم القوة الوحيدة التي من الممكن أن تصد النظام مع العلم بأن الجميع يعلم بأنها من صنع النظام أو ستسير حسب ما يمليه عليها الممول وصاحب المال. ولكن اليأس سيف ذو حدين.. فإذا كان لا بد من موت الاعتدال فليقض على التطرف المقابل أيضاً من الجهة الأخرى.
وهكذا كان وهكذا تحول الاسلام في بلاد الشام، المعتدل إلى بيئة حاضنة للتطرف السني والتطرف الشيعي القادم من الجوار على حد سواء، واستعرت المعركة بين الطرفين على الأرض السورية كما أرادت لها ايران وحزب الله .. وتحولت سوريا الى أنقاض مادية ونفسية ،والخراب امتد الى المستقبل قبل الماضي، فعملية اعادة بناء الانسان المتزن تحتاج الى عقود من العمل الحقيقي، وذلك بكل الأحوال أهم، أو يوازي بناء الحجر والخدمات.
والآن حينما تحرك المجتمع الدولي لأول مرة منذ بداية المسألة السورية، تحرك بجدية أقنعت الناس ..بأن هنالك بصيص أمل في وجود من ينصف هذا الشعب المظلوم .. على الفور بدأت الحاضنة الشعبية بالتخلي عن داعش وسواها ..وفي هذه المسألة عمق شديد فالمواطنون المصنفون تحت يافطة السنة كما أريد لهم ، تخلوا ببساطة عن تطرفهم ، لا وبل هم يذهبون لقتال هذا التطرف بأيديهم كما حدث في العراق سابقاً حينما قاتلت الصحوات القاعدة، وحالياً داعش.. على عكس باقي الطوائف الأخرى التي لم ولن تتخلى عن متطرفيها في تلك المعركة الطائفية أنفة الذكر.. على سبيل المثال لن يتخلى المواطنون( الشيعة )عن حزب الله الذي هنالك اعتقاد راسخ بأنه يحميهم، بينما يجزم المواطنون (السنة) بأن الدولة العادلة وحدها من سيحميهم من أي شيء قادم.
ومن هنا ولهذا السبب بالتحديد ف (السنة) لا يعتبرون (طائفة) بل هم شعب متنازع الأهواء والمشارب والأطياف، لديه ما لديه من الاختلافات الثقافية والاجتماعية ومخلفاتها التناحرية في الاقتصاد والرياضة و الفن وغيرها من الحقول.
اذ أن الاحصاء المفترض تداوله شعبياً يعطيهم أكثر من ثلاثة أرباع النسبة الشعبية بمقابل بقية المكونات السورية، التي تقتسم الربع المتبقي جميعها. ولكنهم من هنا ليسوا على قلب رجل واحد وهذا منطقي لأن التباينات بينهم كثيرة من عرقية الى
ثقافية الى مناطقية من جهة، ومن جهة أخرى لا مرجعية واحدة ولا رأس هرم لديهم.. كما بقية المكونات التي تسسير وفقاً لمرجعياتها، دينياً وسياسياً.
ولعل البنية الكهنوتية للطبقة السنية هي السبب في ذلك، فلا مراتب دينية لديهم تاريخياً، ولا شروط ومراحل وتدرجات مفروضة عليهم كي يصبح أحدهم (شيخاً)، وهو أعلى منصب ديني لديهم. فطوال الألف سنة الماضية كانت السلطات الزمنية والدينية بيد رجل واحد تختلف مسمياته من أمير المؤمنين، إلى السلطان، إلى الخليفة؛ وهو رأس الدولة والمرجع الروحي بذات الوقت. وحينما قام أتاتورك بالغاء مفهوم ومنصب الخلافة في الثالث من أذار عام 1924.. فكّكَ دون أن يقصد عرفاً تم تداوله منذ أيام الرسول (ص)، يحدد المرجع الأعلى الذي مضت على دربه الشعوب المسلمة.. واختار العلمانية كمنهج في تركيا الشابة، متخلياً عن مسؤولية دولته عن مستعمراتها السابقة، تاركاً الفراغ بديلاً في تلك الدول التي تخبطت سياسياً طوال قرن مضى دون الاستقرار على شكل أو مرجع يقتنع به جميع الافرقاء من اليمين إلى اليسار.. فدخلت منطقتنا العربية في أتون التجارب، من الملكية الى الانتداب الى النزعات القومية الى حكم العسكر والأمن دون أن تصل الى بر أمان يقتنع فيه الجميع بأنهم يعيشون في بلد يحترم فيه الجميع دون تمييز.
والآن وبعد كل هذا التفكيك الذي طال المجتمعات العربية وأوصلها الى مراحل ما قبل الدولة لا وبل الى مرحلة القبيلة و الطائفة والعائلة.. أكد الشعب من جديد بأنه لن يعود الى صيغة الخلافة التي تحوي فيما تحوي قيماً ديكتاتورية و سلطة مطلقة لا نقاش فيها من أحد ..مؤكداً على أن الشكل الوحيد الذي يريد اقتحام المستقبل به هو الشكل الديمقراطي حيث أن الشعب هو من يحكم نفسه فعلاً وليس قولاً وبكل أطيافه وتنوعاته. وليس الشكل الداعشي الذي ما هو الا الشعب حينما يمارس انتحاره منفرداً من اليأس.
التعليقات (2)