الثورة بين فلسطين وسوريا...

الثورة بين فلسطين وسوريا...
تعرضت المنطقة العربية لعدة هزات سياسية ابتداء من بداية القرن العشرين كان أهمها انهيار الدولة العثمانية وضياع الدول التي كانت منضوية تحت لوائها وصولا الى أهم ثوريتين في المنطقة الشامية عموماً ، تلك النطقة التي لم تهدأ منذ أكثر من مائة عام .حيث تواصلت فيها الأحداث السياسية العسكرية إن كان عبر الحروب العربية الاسرائيلية أو عبر الأحداث المحلية في كل البلاد الشامية من انقلابات وحروب اهلية ...ولكن الحدثين الأكثر أهمية في منطقة بلاد الشام وفقاً لانعكاسات الحدث المحلية والاقليمية هما الثورة الفلسطينية وبعدها الثورة السورية ...

هاتان الثورتان حتماً هما الحدثان الأكثر في شرق المتوسط من حيث تأثيرهما على شعوبها والشعوب المجاورة وحتى العالم ، ولكن هنالك فروق جمة وجذرية بين الثورتين ، فالدعم والتعاطف مع الثورة السورية لا يقارن بالتعاطف الرسمي والشعبي والعالمي مع الثورة الفلسطينية ..تلك الثورة التي كانت النساء في الدول العربية وخصوصاً سوريا تنتزع أساورها وحليها الذهبية الشخصية من أجل التبرع لهذه الثورة ، التي واجهت واحداً من أعتى الاحتلال الاستعمارية في العالم الحديث.. سخر لها التعاطف العربي وتعاطف العالم الثالث البيئة المثالية لتنتج ثقافة حقيقية لمفهوم المقاومة لكل ما هو ظالم في العالم بل وأصبحت ثقافة دعم الثورة الفلسطينية موضة رائجة في صفوف الشعراء وكتاب اليسار وصحافيي الغرب رافضي مبدأ الهيمنة الكولونيالية على العالم الثالث والدول النامية، مثل (جان جينيه) و(أوليفر ستون).. وهكذا وفي ظل هذه الرعاية ومن خلال المدة الزمنية الطويلة لهذه الثورة ضد الممارسات الاسرائيلية ..كبرت مفاهيم الثورة الفلسطينية لتنبت أجيالاً من المقاومة فكراً وممارسة و قتالاً ..وكبرت فكرة مقاومة اسرائيل و اعتبار قضية فلسطين القضية المركزية للعرب و العروبة حتى أصبحت طوطماً يعبد ، وعلى كل من يفكر في اعادة التفكير في هذا المبدأ أن يتوقع أشد أنواع التنكيل والتخوين والترهيب في المجتمعات المجاورة لفلسطين المحتلة والتي حكمت من أنظمة عسكرية قمعية لا تؤمن بحقوق شعوبها ولكنها في الوقت نفسه تؤمن بحرية الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي ، طبعاً كانت هذه هي شعارات ما سمي فيما بعد بحلف المقاومة أي تلك الدول التي ادعت أنها الأنظمة الوحيدة التي تواجه اسرائيل عسكرياً وترفض أي مساومة في هذه القضية و طبعاً هذا كلام حق يراد به باطل فآخر ما يهم هذه الأنظمة هو الشعب الفلسطيني و حريته ، هذا الشعب الذي أعلن مراراً وحدة حاله مع الشعب الفلسطيني وأن قضية الشعبين واحدة ..

ورغم كل الدعم العالمي والتعاطف الكبير الذي حظيت به الثورة الفلسطينية لم تستطع تحقيق هدفها الأعلى في تحرير فلسطين أو تأسيس الدولة الفلسطينية المنشودة ،كونها تواجه قوة عسكرية مدعومة عالمياً ، أما الثورة السورية التي وصفت مراراً باليتيمة والوحيدة ،لم تستطع على مدار السنوات الأربعة التي خاضت بها الشكل السلمي والمسلح ..لم تستطع حصد التعاطف اللازم لقضية تبدو من حيث الجوهر قضية أخلاق بالدرجة الأولى قبل أن تكون قضية شعب له الحق في تقرير مصيره ..لم تستطع حتى أن تبني أدبياتها الخاصة أو ثقافتها التي يتبناها أكثر من عشرة ملايين نازح ولاجئ ومهجر ..ففي الوقت الذي كانت الثورة الفلسطينية تراكم فناً وصف بفن المقاومة بفنانين مثل مرسيل خليفة و فيروز والرحابنة، وشعراء من طراز درويش وسميح القاسم، ورسامين وسينمائيين وغيرهم الكثير، توقفت الثورة السورية عند عتبة الفن الهائم الذي لا هوية حقيقية له ، او على الاقل هو فن لا يعبر عن آلام الشعب السوري وآماله ، فمنذ أغنية سميح شقير يا حيف أصيب فن الثورة السورية بمرض الفجاجة و التعبير المباشر عن الغضب وحتى الحقد دون بذل اي مجهود في صناعة لغة فنية او مجازية تستطيع الوصول الى المتلقي العربي لتنقل له قضية محقة مائة في المائة، وهذا الأمر غريب غرابة شديدة فالقضية السورية مقنعة من كل زواياها لمن يستطيع ايصال فكره ورأيه للآخرين ، وربما طريقة عرض القضية السورية فنياً هو من أشد اسباب عدم تعاطف الغرب والعرب وحتى أبناء البلد الواحد مع آلام الشعب السوري ، فهي قضية ملطخة بالشعارات التي ارادها لها خصمها النظام السوري ، من دم وشعارات متطرفة و اقصاء ، تماماً كما تمنى لها الأخير ..دافعاً اياها بعيداً عن أهدافها المدنية والحضارية.

ففي الوقت الذي كان مرسيل خليفة يغني (بين ريتا وعيوني بندقية)، كانت الأغنية الثورية في سوريا تقول (أبو نص لسان، ابو نص رقبة) وهو حتماً ليس خطاب الشعب السوري الذي استطاع أن يوصل فنه وثقافته بعيداً في العال.. ولكن الظروف اللوجستية لم تتح له أن يفرد جناحيه أو أن يصرخ معبراً عن فنه الجدي.. فالصراع في سوريا هو بالدرجة الأولى هو صراع ثقافي.. بين أفكار حزب البعث المجمدة منذ خمسين عاماً، وأغنيات علي الديك والمسرح القومي المنخور بالأيديولوجيا الفارغة، وبين جيل شاب يريد أن يثب إلى الأمام... ولكنه مكبل ومقيد.. وربما انفجار حالة الفيلم الوثائقي في سوريا هي بديل عن انفجار الأغنية والقصيدة في التجربة الفلسطينية؛ فالواقع السوري حينما يصور دون تلوين أو تحوير او أدلجة استطاع الوصول الى الناس مباشرة وعبر العالم.. حاصداً الجوائز والمباركات والدموع والقلوب أيضاً.

بكل تأكيد ان تدهور الحال الفني للقضية السورية، له عدد كبير من الأسباب أوله وأهمه هو حالة الضياع في تحديد الخصم، هل هو النظام أم الغرب أم التنظيمات المتطرفة أم اسرائيل وكلها أطراف متناقضة، ومن جهة أخرى عدم الاستقرار، فالواقع السياسي لهذه القضية مشرذم ومضطرب ولا رأس له.. ولكن تجرية الثورة الفلسطينية لا تزال أغنى، ربما بفضل الزمن الطويل الذي استغرقته، وربما لن تحتاج تجربة النضال السوري أيضاً، سوى الانتظار قليلاً لتكمل مسيرتها داخل أرضها وفي أروقة مسارحها وسينماها.

التعليقات (1)

    سناء شقير

    ·منذ 9 سنوات 5 أشهر
    مقال متميز ...بالفعل ثورتنا عظيمة في كل شئ لكنه الفن لم يواكبها ولم يصنع اعمالا بعظمتها
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات