بدأت نوال صوفي العمل الإنساني، منذ كان عمرهما 14 عاماً، وأول ما جربته كان مساعدة المشردين، من الإيطاليين والمهاجرين المغاربة، بغض النظر عن دينهم أو لغتهم وانتماءهم، ومع الوقت توجه اهتمامها نحو القضية الفلسطينية فخرج في مظاهرات ونظّمت بعضها، وتحولت إلى إنسانة فوضوية لم يستطع والدها كبح جماح نهمها في المجال الإنساني خوفاً من أي خطر قد تتعرض له.
قررت (الناشطة نوال)" دراسة العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وفي السنة الجامعية الثانية استطاعت العمل في المحاكم والسجون، كوسيط اجتماعي للتخفيف من معاناة المهاجرين، حيث تتقاضى (نوال) من الترجمة أجراً يساعدها في الإنفاق على جامعتها.
قبل عامين، قررت نوال في لحظة كان في جيبها ثلاثة يوروهات فقط، أن تجمع الأدوية وترسلها إلى سورية، واستطاعت عبر الإرادة تجهيز قافلة أسمتها (قافلة الحرية لحمص)، كونها ترى في المدينة رمزاً لأعظم ثورة عاشتها الإنسانية، وترفض في الوقت نفسه أن يطلق عليها حرب أهلية أو طائفية.
بدأت نوال بجولات إلى المشافي والصيدليات والأصدقاء العاملين في المجال الطبّي، لمساعدتها في مبادرتها الإنسانية، فجمعت كميات من الأدوية في غرفتها الخاصة، وخلال شهرين ونصف، ورغم اعتبار البعض أن محاولة إدخال مساعدات إلى حمص أمر جنوني، إلا أنها عزمت أمرها على المضي بذلك.
استطاعت نوال السفر إلى سورية عبر تركيا، وعلى الحدود سلمت الأدوية إلى أشخاص من ريف حمص لنقلها سراً إلى الداخل، وبعد ذلك دخلت حلب المدينة وزارت مساكن هنانو وخان العسل وسعت لنقل صورة عن معاناة الشعب السوري.
عندما شعرت نوال بالخطر الذي يحيط بالسوريين المهاجرين عبر قوارب الموت إلى أوربا، نذرت نفسها لمساعدتهم، فقد كان يعاني المهاجرون عندما يتصلون بخفر السواحل أو الصليب الأحمر من عدم القدرة على شرح ما يريدون بسبب اختلاف اللغة، وفي كثير من المرات لا يتجاوب الخفر بسبب عدم الفهم، ويحتاج المهاجر غير الشرعي إلى محامي يدافع عنه ويحل مشكلته، قد يخسر المهاجر القضية نتيجة لذلك، ولكن بحضور نوال لم يعد يخشى المهاجرون عبر إيطاليا هذه العقبات، فهي حاضرة دائماً، في خدمة المقهورين والمساكين، يدفعها حبّها للإنسانية وتقديم العون للآخرين.
بدأت نوال تتلقى الصدمات منذ المكالمات الأولى، عندما يخاطبها صوت متقطع: (ألو نحن 400 شخص طلعنا من ليبيا والمهرب تركنا وغادر.. والقارب يهرّب ماء والموتور توقف عن العمل، اتصلي مع خفر السواحل.. أرجوكِ.. أنقذونا).
هذه المكالمات كانت ولا تزال تؤثر في الصميم وتحتل جزءاً كبيراً من يوميات نوال، خاصة أن كل قارب يعاود الاتصال مرات عديدة لخطورة الوضع، ولذلك وخشية أن تنام ولا تسمع رنين هاتفها، تضع نوال أحياناً الثلج على عينيها حتى تبقى متيقّظة لأي طارئ.
ليس سهلاً أن ينذر الإنسان نفسه لاستقبال عشرات الاتصالات يومياً، وقد يشعر المرء بالممل أو السأم من ذلك، لكن بالتأكيد ليست (الناشطة نوال) من تتذمر من اتصالات المهاجريين السوريين، فهي طوعياً ودون أجرٍ نذرت نفسها لإنقاذهم بأي طريقة، فكل (قارب موت) يصل المياه الإيطاليا يحمل على الأقل 200 شخص وأحياناً يصل العدد إلى 800 شخص، وفي شهر آب الفائت، تلقّت نوال في يوم واحد 15 مكالمة من قوارب، تولى خفر السوال إنقاذها جميعها، بعد اتصالات نوال وإنذارها بذلك.
عندما يصل المهاجرون السوريون على شواطئ جزيرة صقليا تبدأ معهم معانات جديدة، فقد يقعون ضحايا الاحتيال والنصب من قبل مهربين يعرضون إيصالهم إلى ميلانو بمبالغ مضاعفة. وهنا تتولى نوال مهمة توعيتهم وتعريفهم بطرق التنقل الرخيصة غير المكلفة، وشراء (رقم) لطمأنة عائلاتهم.
تحزن نوال عندما ترى مهاجرين يدفعون ثمن موتهم غرقاً في البحر، فقط من أجل بعض الأمان، ولا تنسى عندما سألت مرة شخصاً عن حلمه فأجابها: "أن أنام ليلة واحدة دون أن يشتمني ويمس كرامتي أحد".
يجرّم القانون الإيطالي أي شخص يساهم في الهجرة السرية بالسجن لمدة قد تصل إلى 10 سنوات، ورغم أن دور نوال يقتصر على إخطار خفر السواحل والصليب الأحمر بوصول القوارب القادمة، وتوعية المهاجريين بما يجب القيام به، إلا أنها لم تسلم من كيد البعض، ومعاداتهم لها، ومعظمهم من العرب المقيمين في إيطاليا، حتى باتت نوال تشعر بالخطر والتهديد، لأنها حذّرت المهاجرين من الأشخاص الذين يحتالون عليهم.
لم ينتهي الأمر عند هذا الحد، فقد هدد البعض بالانتقام من (الناشطة نوال) برفع دعاوة ضدها بتهمة المساهمة بالهجرة السرية، لكن نوال عندما تتصل بخفر السواحل لا تفكر بأي عقوبة، طالما أنها تقوم بما يمليه عليها واجبها الإنساني، واحتياطاً تقوم نوال بتسجيل كل المكالمات التي تردها من قوارب الهجرة، حتى تكون آمنة.
الكثير من القصص التي شهدتها نوال من مهاجرين سوريين، تقطع نياط القلب، كقصص الأطفال الصغار الذين خرجوا من سورية دون أب أو أم، ووصلوا برفقة أقاربهم أو جيرانهم إلى أوربا، وفي مرة سألت نوال شخصاً عن أكثر ما يتذكره في رحلة القارب، فقال: "لما ابني نظر بعيني وسألني بابا أنت دفعت كل هذا المال من أجل أن تقتلنا في البحر؟."
ولدت الناشطة نوال، ابنة الـ 27 عاماً، في إيطاليا، لأب وأمّ مغربيان، هاجرا إلى إيطاليا قبل 30 عاماً، لم تدرس نوال العربية لكنها تجيد التحدث بها، وتستخدم اللهجة الشامية في تواصلها مع السوريين، فاللهجة المغربية صعبة الفهم.
لا يقتصر نشاط نوال على إنقاذ (قوارب الموت)، بل يتعدى ذلك إلى متابعة أحوال السجناء المتهمين بالهجرة غير الشرعية، في العديد من الدول ومنها مصر، حيث تتواصل نوال مع منظمات حقوقية عديدة.
رغم كل ما تقوم به، تعتبر نوال أن المنقذ دائماً هو (الله) ولا ترى نفسها إلا سبباً صغيراً، بل تقول أن العمل الإنساني إن لم يخرج من القلب فإن إتقانه صعباً، تصف البحر بأنه (رحم كبير)، ووصول الناس إلى الأرض (ولادة جديدة) ولذلك تعتبرهم أبناءها، وتحبهم لدرجة لا يتصورها عقل، ولهذا فإن أجمل إحساس تشعر به (الناشطة نوال) هو عندما تستقبل المهاجرين في الميناء، بعد رحلة الموت المحفوفة بالمخاطر، فاللاجئيين هم أولادها صغاراً وكباراً، كما تحبّ أن توصفهم. ولا تنسى نوال أن تلتحف بعلم الثورة عند استقبالها للاجئين حتى تشعرهم أنهم ليسوا وحدهم، وهم بدورهم لا يخفون سعادتهم بلقاء (ملاك الرحمة) الذي كان سبباً من أسباب بقائهم أحياء.
التعليقات (73)