جاء في نص التقرير:
" تسعى دار الأوبرا في دمشق إلى نفض غبار الحرب عنها، وإلى إعادة الجمهور إلى مقاعدها المخملية بعيداً من أعمال العنف التي تجتاح البلاد منذ نحو أربع سنوات والتي سرقت منها تألقها وجمدت نشاطاتها، وكانت للدار حصة فيها.
وتقول دارين القادمة من منطقة معضمية الشام في محيط العاصمة والتي شهدت معارك عنيفة وهجوماً بالأسلحة الكيماوية: «عندما تبدأ الحفلة وتصدر أول نوتة من اللحن، أنتقل بإحساسي إلى عالم مختلف، عالم يسوده السلام وأنسى صوت الحرب».
انتهى الاقتباس.
المعضمية التي أنهكها الجوع والحصار على مدى عامين، والتي يوصف أهلها بأنهم "إرهابيون" على حواجز النظام التي تقطع أوصال مدينة دمشق وحدود تماسها مع ريفها المحاصر، يأتي أهلها لحضور معرضا تشكيليا ويستمعوا إلى الموسيقى في دار الأوبرا التي تقع في ساحة الأمويين أي في قلب المربع الأمني، والتي –كما قلب النظام- مفتوحة لكل السوريين!
وفجأة تنتقل المعضمانية (دارين)، التي تعرف بالتأكيد ما فعله أبناء الحي الشرقي في المدينة، من المتسوطنين العلويين في الأراضي التي نزعت من ملكيتها من أهالي المعضمية، واستملكت بتراب الفلوس في عهد الأسد الأب، تعرف ما فعلوه بجيرانهم الثائرين ضد الأسد الابن.. تنتقل مع أول لحن تصدره النوتة – حسب نص التقرير – "إلى عالم مختلف يسوده السلام"!
الله... يا مراسل فرانس برس.. ماذا تركت لمحرري صحيفة (البعث) أو (تشرين) أو (سانا) كي يبدعوا أكاذيب أكثر إضحاكاً من ذلك؟!!
لغة التقرير ليس فقط لغة (تشرين) و(الثورة) بل هي نفس اللغة التي يمكن أن تقرأها في أي موقع موال للنظام بلا أدنى تعديل.. لا ثورة يضطر محررو الإعلام الموالي للأسد لتعديل تسميتها في تقرير (إ. ف. ب) بل (حرب) و(أعمال عنف) فقط. أما الحواجز التي تقطع أوصال المدينة فلا ذكر لها، ولم تتحمل أي مسؤولية عن تهجير الجمهور. ولهذا يتنقل مراسل (فرانس برس) ليتلقي بشابة أخرى... تصادف وجودها في بهو الأوبرا الذي علقت على جدرانه لوحات لأشهر الفنانين التشكيليين السوريين. تقول:
«نحن متعطشون للفن ونحتاج إلى أن نخرج من الحالة السلبية التي نعيشها إلى عوالم أخرى إيجابية تعطينا دفعاً معنوياً نواصل به الحياة».
لا ينتبه مراسل فرانس برس، في الفقرة التالية إلى حجم الكذب الذي ينضح في المعلومة التي يوردها كي يدافع عن صمود النظام في وجه الثورة المشتعلة ضده. يقول:
"وفي كانون الأول (ديسمبر) الماضي، نظمت إدارة دار الأوبرا على مدى خمسة أيام «مهرجان الموسيقى العربية» الذي شاركت فيه عشر فرق، واستقطبت معظم الليالي أكثر من ألف مشاهد، ما يعادل تقريباً عدد حضور الحفلات قبل الأزمة التي بدأت في منتصف آذار (مارس) 2011".
من مدينة كان يسكنها قبل "الأزمة" على حد تعبير مراسل فرانس برس، أكثر من خمسة ملايين شخص، كان يحضر خمس أمسيات موسيقية (1000) شخص.. أي ما لا يزيد عن (200) شخص لك أمسية. الآن بعد الأزمة بقي الرقم نفسه... فهل يعقل أن يكون حضور أمسية ثقافية في دار الأوبرا هو (200) شخص. هل جرى التبخيس بالرقم كي نقول أنه بعد اندلاع الثورة، لم يتغير شيئاً؟!!
إذا كان التقرير يقول لاحقاً أن دار الأوبرا خسرت (42%) من عدد موسيقييها فكيف يمكن ألا تخسر أحداً من جمهورها؟!
لغة دعائية تحاول أن تداري كذبها باسم الجمهور وباسم الحياة الطبيعية لكنها تعود لتفضح نفسها بنفسها حين تشير إلى تراجع عروض الدار، وإلغاء مهرجان دمشق السينمائي الذي كانت تستضيفه الدار... فكيف يمكن لكل هذا التراجع أن يبقى الجمهور على حاله تقريبا!
لا غرابة فيما يقول مدير عام ما تسميه فرانس براس «دار الأسد للثقافة والفنون» جوان قره جولي... فكلامه – على نفاقه- أقل دعائية من سرد مراسل الوكالة التي يفترض أن يقدم سرداً حياديا متوزانا. يقول قره جولي:
«من استشهد مات كي نبقى على قيد الحياة ولتبقى المسارح مفتوحة (...). لم يستشهدوا كي تغلق المسارح».
يتابع التقرير:
ويؤكد قره جولي الذي تسلم منصبه منذ شهر ونصف الشهر، أنه سيتم تفعيل نشاط الدار و»تنظيم الكثير من المهرجانات الموسيقية والعروض السينمائية» خلال العام الحالي. كما ستنظم الدار معارض جديدة لم تشهدها من قبل، كمعارض الفنون التشكيلية والكتاب. ويضيف المدير بحماسة أن الغاية هي «أن يجد الزائر عرضاً أو نشاطاً في أي يوم يأتي به إلى الدار». ويشير إلى أن الهدف هو «تعزيز ثقافة المصالحة»، لافتاً إلى أن «الثقافة والفن يجمعان الناس على اختلافهم السياسي وأي اختلاف آخر».
حسناً... هذا كلام شخص قبل أن يكون مديراً عاما لمؤسسة تحمل اسم الأسد الذي ضرب الشعب الذي يحكم باسمه بالكيماوي والسكود والصواريخ والبراميل... فليقل ما شاء عن ثقافة المصالحة التي يعلم أنها تمارس على أبشع نحو في أقبية سجون نظامه "الوطني"... إلى درجة أن (هيومن رايتس ووتش) أطلقت اسم "أرخبيل التعذيب" على شبكة واسعة ومعقدة من مراكز التعذيب والاعتقال التي تديرها قوات الأمن السورية وعناصر المخابرات. وقالت آنا نيستات المدير المساعد لبرنامج الطوارئ في هيومن رايتس ووتش إن "مستوى التعذيب في سورية لا يمكن مقارنته بأي صراع آخر"... فيما قال موقع (غلوبال بوست ) الأمريكي: "عندما يتعلق الأمر ببلطجية الأسد، فهم لا يقيمون أي اعتبار لسن من يقومون بتعذيبه حتى لو كان طفلاً، كما أن واحد من كل خمسة معتقلين هو قاصر".
حسناً ليقل الموسيقي المرهف (جوان قرجولي) ما يشاء ما دام قبل أن يكون في هذه الخانة من مناصرة الإجرام بقفازات الثقافة، لكن ماذا عما يقوله مرة أخرى مراسل وكالة عالمية يفترض أن تتحلى بأبسط درجات الحياد؟!
إنه يختم لنا تقريره بالقول:
"ومن الحفلات التي أقيمت أخيراً، عرض لفرقة «لونا للغناء الجماعي» المؤلفة من خمس جوقات غنائية وأوركسترا بقيادة حسام الدين بريمو التي قدمت أغان تراثية منها: «بالفلا جمال ساري». وتواجه الدار، إضافة إلى ظروف الحرب، تحديات كبيرة متمثلة بانخفاض عدد العاملين فيها من إداريين وفنيين إلى أقل من النصف، وعدد الموسيقيين بنسبة 42 في المئة، لأسباب عدة منها الهجرة أو الالتحاق بالجيش لأداء الخدمة العسكرية".
كان ينقص المراسل الذي سفّه الوكالة التي يراسلها وداس أبسط مبادئ المهنة التي يمارسها.. كان ينقصه أن يضيف:
"... لأداء الخدمة العسكرية دفاعا عن الوطن وقائد الوطن السيد الرئيس بشار حافظ الأسد" فقد يعفي محرر (البعث) أو (تشرين) أو (سانا) المتثائب من أن يضيفها بنفسه... بعد أن تقارب مستوى هؤلاء مع مستوى مراسل فرانس برس إلى هذا الحد من التطابق والتشابه... ويخلق من الشبه أربعين!
التعليقات (8)