حلب: رثاء قديم ومستشرقون جدد!

حلب: رثاء قديم ومستشرقون جدد!
في عام 2004 ، وكنا حينها مشاركين في إقامة لكتاب المسرح جمعت كتاباً سوريين وكتاباً من أنحاء العالم الفرنكوفوني من ساحل العاج وبلجيكا و تونس وفرنسا ..أقامتها مؤسسة ecriture vagabonde أي الكتاب الجوالون العالمية ..وقرر لهذه الاقامة التي استمرت شهراً على أقل تقدير أن تكون في مدينة حلب السورية ، و في أحد بيوتات المدينة الرائعة التي حرصت وزارة الثقافة الفرنسية أن تستثمره ثقافياً وترممه أفضل ترميم معيدة ألقه القديم ، ذلك البيت العربي الحلبي الذي يشبه القصر والذي يقع خلف حمام باب الأحمر الأثري وأغلب الظن أن الكثير من الفنانين المسرحيين والسينمائيين والتشكيليين العرب

والأجانب يذكرونه جيدا ًسمي بالتواتر باسم (الريسيدانس) وكان تحفة معمارية حقيقية.

هناك التقينا بـ (جوليان فايس) أو (جلال الدين الرومي) كما سمى نفسه، رجل أشقر نحيل يبدو على ملامحه هدوء وسكينة ذلك المستشرق الكبير الذي ترك اوروبا بكل ألقها وقرر أن يهاجر ثقافياً الى حلب التاريخ والحضارة ، هناك سحرني الرجل بكل ما أوتي للكلمة من معنى فما الذي يجعل فناناً وموسيقياً ثرياً لديه كل تسهيلات العمل الفني والثقافي أن يتخلى عن كل شيء و يأتي الى بلادنا التي كنا نعاني فيها ما نعانيه من احباطات ثقافية و فنية وسياسية، و دون أي تردد قام جوليان بدعوتنا الى منزله الخاص الذي يقع في حي باب قنسرين ، ولما دلفنا اليه دهشت من الفخامة والأمانة في الحفاظ على المعمار الشرقي و الحلبي تحديداً مضاف اليه اللمسات التجديدية من مستشرق يعلم ما هي قيمة قصر حلبي من القرن السادس عشر، فأضاف عليه كل ما وقعت عليه عيناه من تحف حلبية ومفروشات شرقية عربية اقتناها بنفسه، حتى بدا القصر كمتحف حقيقي كل زاوية فيه تجعلك تتامل عبق سحر الشرق فيها، من النحاسيات المتدلية من السقف الى الثرياً الزجاجية الضخمة في سقف الليوان الى أصص الزهور النحاسية المحفورة بعناية الى صناديق وخزانات الصدف المتناثرة في كل مكان.. إلى أفاريز الشبابيك الوطيئة التي تشرف على باحة سماوية مذهلة تعلوها غرف الطابق الثاني حيث تقام تمارين الموسيقا.

في الديوان في الطابق الأرضي جلسنا نحتسي الشاي بالقرفة في كؤوس مطرزة بالفضة ما ان انتهى الشاي حتى بدأت الفرقة بالتجمع فدخل راقصو المولوية و الموسيقيون الحلبيون العتاة ، ومعهم دخل عازف العود الشهير محمد قدري دلال ، الشهير في عموم حلب بأبي قدري.

دخلوا وخلفهم جوليان الذي ارتدى حلته المشرقية بالكامل من قفطان الصايا الى الشروال المطرز بالقصب والحرير ..الى الخف الشرقي القديم الهارب من ألف ليلة وليلة ، جلس في صدر الليوان و الى يمينه ويساره العازفون ونحن متحلقين حولهم ، استل جوليان جلال الدين ألة القانون وبدأ بوصلة شرقية مذهلة أعقبها أبو قدري بوصلة خاصة وما هي الا دقائق حتى بدأت الفرقة تنشد الموشحات و القدود الحلبية أما المولويون فقد انتصفوا المكان وبدأوا دورانهم الذي نقلنا الى عوالم أخرى أكثر جمالأً ..

كانت حالة (جوليان فايس) الذي تخلى عن الغرب وأتى الينا مذهلة، وكان قصره مركز إشعاع موسيقي حقيقي، لفرقته التي سماها فرقة (الكندي) والتي ضمت فيما بعد موسيقيين كثر جابوا سوريا والعالم بحفلاتهم برفقة الشيخ المنشد حمزة شكور والكبير أديب الدايخ و كبار أساتذة موسيقيي حلب وصولاً إلى المعلم صبري المدلل.

كانت أيام يأتي بها المسشترقون ليسكنوا ويعمروا و يضيفوا الى جمال الشرق ويعودوا الى بلدانهم أكثر ايمانأً بالحياة ، في تلك الأيام كان الفنانون وطلاب العلم من يأتون الى بلادنا، في تلك الأيام لم يكن هنالك جهاز مخابرات سوري أو ايراني يوجههم ويدفعهم للمجيئ الى بلادنا، مثلما يحصل الآن مع مجاهدي أوروبا الذين يأتون الينا زرافات ليطبقوا شريعتهم عندنا، في تلك الأيام كانت أجهزة المخابرات لدينا على وفاق مع الغرب، وليس هنالك من داع لتفجير مظاهرات للاحتجاج على الرسوم المسيئة للرسول الكريم و لم يكن هنالك من ينظم عملية للاقتصاص من جريدة (شارلي ايبيدو)، وكان (جوليان فايس) جلال الدين يتغنى بأسماء الله الحسنى في مدينته حلب.

في تلك الأيام كانت بيوتات باب الاحمر وباب قنسرين شواهد على تمازج الحضارة بين الغرب والشرق وكان قصر جوليان صرخة عالية لحرية التعبير وقبول الأخر مهما كان، وفي تلك الأيام لم نكن لنعلم أن كل تلك الذكريات ستدك تحت صواريخ النظام دون عودة، دمر النظام الريسيدانس ودمر قصر باب قنسرين و دمرت حلب، وقتل صحافيو جريدة (شارلي ايبيدو)، وأتى الينا فرنسيون واوربيون مجاهدون، ومات جوليان فايس جلال الدين مؤخراً وفي قلبه حسرة على حلب ..درة الشرق ، ولربما سيدخل ما تبقى من قصر جوليان الحلبي مجاهد مستشرق فرنسي مسلح ما، وسينظر الى ما تبقى من ارث جوليان المعماري والثقافي والموسيقي دون أن يعلم من هو جوليان (رسول التعايش) وكيف كان الاستشراق في حلب ثقافياً وكيف تحول الاستشراق الى استشراق جهادي، فلكل زمان رجال ولكل مقام مقال.

التعليقات (3)

    كمال العظمة

    ·منذ 9 سنوات 3 أشهر
    مقال رأي عظيم ....شكرا اورينت

    هيام اورفلي

    ·منذ 9 سنوات 3 أشهر
    الحقيقة بكيت وبكيت وبكيت ...أنا بيت جدي بباب قنسرين ...و ذكريات طفولتي كلها هونيك ...الله لا يوفقك يا بشار

    سوريا الأسد تَعُجُّ بالإنتحاريين

    ·منذ 9 سنوات 3 أشهر
    كيف تصنع إنتحاري؟ إسألوا بشار الأسد و تخاطروا مع روح أبوه فكلاهما خبراء في هذا المجال؟ والمفتي حسّون هدد العالم بذلك أوائل ثورة من فقد أحباءه واسودّت الدنيا في عيناه وإن كانوا مُلْحِدين فروح الإنتقام الحبيسة في فؤاده أو فؤادها تتبعرص في تلافيف دماغه أو دماغها إلى أن تجد مخرجاً لتضرِبَ أيَّ سببٍ كان مُولِّداً أم مُؤَدِّيَاً للمأساة التي واجهها أو واجهتها فطظ ـ يعني طز عالشهادة ـ والمصير في الجنة فهو آخر ما يخطر بالبال ـ خاصة ببرد الشتاء القارس و افتقاد المازوت ـ الإنطلاق إلى جهنّم أولى الأوليات
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات