في انتظار حنظلة

في انتظار حنظلة
الصورة التي تدير ظهرها وكأنها تعلن إدبارها عن حياة مبتذلة وتسعى لحياة مقبلة بكل توثبها نحو حلم عصي على التحقق، تدفع لتساؤلات جمة وما إخفاء معالم الوجه إلا لتستحث كل حواس الناظر وتركزها على استنطاق اللوحة بجملة إيحاءات وأفكار شذبت أحلام الناس وعرتها من كثير من الوهم خصوصا تلك التي تشي للفلسطيني ألا يعتمد إلا على نفسه دون أن يتكئ على أحد من الحكومات والأنظمة اللقيطة؛ وكان رسم حنظلة أشبه بطوطم يكثف إيحاءاته نحو حكمة ما..

الدوائر فوق رأس حنظلة التي تخط تعليقاته والأفكار التي تدور في أذهان الكثير وكانت عصية على الإفصاح ما هي إلا حلم حقيقي يقول أن الحلم ليس حيدانا أو شذوذا عن الواقع بل إن هناك واقعا شذ عن حقيقة هي الحلم كما يقول شاعر

هذه الأفكار الجسورة لحنظلة تماما كما الطيور التي طالما كنا نراها تحلق دون اكتراث في سماء المدن المصدعة بالطائرات وبراميلها، بعضهم كان يعتقدها ملائكة تحرس الأبرياء وبعضهم كان يظنها أرواح من غادروا استصعبت مغادرتهم فجأة فظلت تحوم.

أفكار حنظلة التي تحرشت بسماء معطلة باحثة عن سماء تليق لتهطل وتحيي كلما احترقت في أرواحنا قصة طائر الفينيق السوري.

كان استحضار حنظلة واستيلاده من ريشة المبدع ناجي العلي يكاد يشبه اختراع الصفر أو الدائرة في التاريخ نسبة لما توصل إليه مأزق الفلسطيني الثائر مما يحيط به ولعل هذا التشبيه ليس مبالغا به بالنسبة للفرد الذي لم يجد أفقا.

وبما أنه - إذ لم يقصص رؤياه على أحد- وعانى كل ماعاناه فقد تنطع للجميع ونضا كل أغلاله فحكى قصة يوسف وأخوته والذئب البريء من دمه وإن كان ذئبا ليقول، ليست هدنة مع الذئب أن أتفرغ قليلا لمعرفة أخوتي وكان الصفح أكبر من حجم الإثم.

يقول قائل إن الشعر نبوءة وكذا تقول الحكمة أن المثقف له نبوءته أوقراءته التي تشي بنبوءة ما وكذا ناجي العلي بحنظلة تنبأ بانتفاضة الحجارة أو دفع لها وما كان على أبو جهاد (خليل الوزير) الثائر والسياسي الذكي والحاذق إلا أن يلتقط الفكرة ويخطط للانتفاضة التي شكلت مدماكا للعمل الفلسطيني في نهضته الثورية وظهور صوتها نحو العالم.

وكما يقول إدوارد سعيد أن المثقف مبشر ومستشرف فقد قدم ناجي العلي من خلال حنظلة استشرافا لما آلت وستؤول إليه الأمور في شرقنا ودولنا التي تقلصت لتنتفخ السلطات على حسابها وتظهر الأنظمة الوظيفية مذ قفز العسكر للسلطة فاستعان بالحجر كمعول للهدم وكانت الكلمة كدافع للبناء وفي البدء كانت الكلمة كما يقول الإنجيل الكلمة التي تعبر عن فكرة وتنقلها لترسخ وتتجذر.

ويستجرني الأمر لأذكر صورتين في تاريخنا، أولاها أدب الفئات الهامشية في العصر العباسي وكيف أنه كان متنفسا للكثير لكن هناك فرقا كبيرا بين تحامق الأفراد الذين عانوا من تهميش المجتمع وعدم القدرة على الاندماج في مجتمع مشطور بين سلطة وحاشيتها وشعب مسحوق بالكد والعمل لتأمين قوت يومه تلك التي نمت في هامش المدن والأطراف دون مبالاة بالسلطة ولا اهتمام منها بعلاج أو تصد ثم طورتها أنظمة العصر الحديث في محاولات تأطير الفرد المضغوط نحو تفريغ عشوائي ومتشظٍّ حتى يوصم حَمَلتُه بالجنون واللاواقعية مما يرسخ ضربا للمنظومة القيمية للمجتمع وتوليد قيمة جديدة تصبغ شخصية الفرد بالاستلاب والجمود.

والصورة الثانية للصعاليك في العصر الجاهلي وكيف خرجوا من ربقة القبيلة وناموسها وخلعوا ولاءهم لها وتمردوا على نظامها الاجتماعي في تراتبية الشيخ والسلطة والمال وبنوا مملكة في العراء بمفاهيمها وتمردها وتجردها وعبروا عن محاولة جَسرِ هوة لابد من تجاوزها تلك التي شكلت ما يشبه ضميرا جمعيا لدى العامة تجاه العشيرة وعلاقاتها.

لم يكن طرح حنظلة مواربا أو مفرِّغا لطاقة ضلت طريقها كبهلول يسير في الشوارع ويفرغ انفلات عقله الذي لم يحتمل الحقيقة ولا محاكيا لسيزيف الذي حكمته الآلهة بحمل الصخر مرة تلو أخرى إلى أعلى الجبل في عمل سرمدي، بل إن طرح حنظلة بيَّن لملمة طاقة فياضة في قراءة الواقع بشجاعة ومواجهة ومغايرة وتوجيهها نحو معرفة تنحو لغنوصية معلنة مشاكسة وغير بعيدة المنال بل تتساوق تماما بالصورة المبسطة لطفل يحمل الحجر لكأنه حجر الحكمة الذي استعانت به كليوباترا لاستعادة توازنها.

إن صورة الطفل المسلح بالحجر والفكرة كسرت وقلبت مأساة سيزيف المتمثلة بالحجر فتحول الحجرلسلاح عكسي و مفتاح لولوج ِسفر فضح الآلهة – (الأنظمة) وبدء مأساة دفاعها المستميت عن عروشها وقلقها المستديم إلى أن تسقط.

حنظلة بصورته الطفولية المظهر وروح الطفل المتوثبة وحكمة الشيخ الراشد كان يقرؤنا كشعوب لابد أن تنهض وتثور وكان يُقرِئُنا سورة قيامة الشعوب, ولاشك أن حامل الحجر كان ينضح عقله بأفكار تنير الطريق الأفكار التي قال مالك بن نبي أنها أساس بناء حضارة أي شعب قبل منتجه المادي فمن يمتلك الفكرة يستطيع أن يستثمر كل طاقات الكون وتسخيرها لخدمة هدفه وحنظلة هنا ولاشك كان يحمل الفكرة والطريق إليها ومآلها أيضا وما ذاك إلا لأنه من قلم مبدع مثقف بمعناه اللغوي (الرمح الذي شذب وأزيلت زوائده).

وما المرور على صورته إلا لاستحضار ما كانت تحتاجه شعوبنا في هذا الخضم من الدماء من عمل المثقف الرائد لقومه لنستشعر الفجوة في ثوراتنا ومدى حاجتنا لحنظلة السوري الغائب أو المغيب تماما مثلما غيب حنظلة التونسي والليبي والمصري لينوء بحمل ما كان حنظلة الأب يحمله ويبوح به صراحا ليقول لنا أن ثوراتنا سرقت وأنها مازالت في المخاض وليقول أن الثورات لا تبنى على النزوع للحرية فقط وأنها تطول ما لم تفرز عقولا ومناهج ورؤى وتبني أفكارا تبني عالما جديدا في دواخلنا وأن الإطاحة برأس نظام أسهل بكثير من بناء نظام على أنقاضه. فمنذا يكون حنظلة ومتى يخرج من سردابه المجهول.

التعليقات (1)

    بينما تنتظرون حنظلة ملك الحيوانات صنع آلاف الإنتحاريين

    ·منذ 9 سنوات 3 أشهر
    كيف تصنع إنتحاري؟ إسألوا بشار الأسد و تخاطروا مع روح أبوه فكلاهما خبراء في هذا المجال؟ والمفتي حسّون هدد العالم بذلك أوائل ثورة من فقد أحباءه واسودّت الدنيا في عيناه وإن كانوا مُلْحِدين فروح الإنتقام الحبيسة في فؤاده أو فؤادها تتبعرص في تلافيف دماغه أو دماغها إلى أن تجد مخرجاً لتضرِبَ أيَّ سببٍ كان مُولِّداً أم مُؤَدِّيَاً للمأساة التي واجهها أو واجهتها فطظ ـ طز ـ عالشهادة والمصير في الجنة فهو آخر ما يخطر بالبال ـ خاصة ببرد الشتاء القارس و افتقاد المازوت ـ الإنطلاق إلى جهنّم من أولى الأوليات
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات