في المسألة المسيحية السورية: إشكالية غياب المرجعية السياسية!

في المسألة المسيحية السورية: إشكالية غياب المرجعية السياسية!
يطرح الباحث سالم الأخرس، في هذا الملف الذي كتب بلغة مختلفة عن اللغة البحثية المعروفة، متخذاً شكلاً حوارياً جدلياً بين شخصيتين مسيحيتين، إحداهما في الخارج والأخرى مازالت تعيش داخل سورية، تأملات حول حال المسيحيين في الشرق عموماً، وفي سورية خصوصاً، محاولاً بلغة هادئة وعميقة أن يوّصف أشكال تواجدهم وتمايزهم في المدن والأرياف، طارحاً إشكالية هامة للغاية تخص المسيحيين السوريين اليوم... وهي غياب أي مرجعية لهم خارج الكنيسة، ما يجعل ممارستهم للشأن السياسي تأخذ شكل "الإقحام" أحياناً... ومؤمناً بأن الظروف المعقدة في سورية تطرح على المسيحيين فرصة نادرة كي يؤدّوا دورا عميق الأثر.

(أورينت نت)

هو حوار دار بينهما على الهاتف بعد انقطاع طويل؛ فهي سورية تقيم في سويسرا، وتعمل ضمن المؤسسات الخيرية المسيحية التابعة للآباء اليسوعيين. الذين ترعرعت في كنفهم، مكتسبة ملامحها الفكرية والدينية والأخلاقية ضمن هذه المؤسسات التي لها اليد البيضاء في تقديم الخدمات والمساعدات الغذائية والطبّية للسوريين كل السوريين. وهو سوري مازال مقيم داخل الأرض السورية حتى تاريخ كتابة هذه السطور حسب ما أعلم, وقد أصبح البعد المسيحي في شخصيته هو الجانب الأبرز في تحديد هويته، بعدما كان متعدد الجوانب في تعريف هويته الاجتماعية العامة.

فرصة هامة ونادرة!

سألته هي وبدون مقدمات: هل مازال للمسيحيين بالشرق مكان ومستقبل؟ وماذا علينا أن نقدم لهم كي نحافظ على حياتهم؟

سمعته يجيبها بسلاسة وتدفّق: "إن الظروف المعقدة والمتراكبة في سورية، تطرح على المسيحيين فرصة نادرة وهامة كي يؤدّوا دورا عميق الأثر والمعنى في هذه الأزمة، قلَما تأتي في الظروف العادية". واستطرد بالقول: "إذا نظرنا إلى المشهد السوري الآن, واعتبرنا أن هناك طرفان (وهذا تبسيط مخلّ) ولكنه يصلح أن يكون مدخلا إلى الوضع السوري؛ فإننا نلاحظ أن كل طرف يسعى جاهدا أن يقدّم نفسه (كحالة متوازنة ومعتدلة)، وأنه يدافع ويُعبّر عن مجموع السوريين، يسعى كل منهما أن يتقرّب ويظهر أنه يرعى ويخدم ويحمي المسيحيين، ويسعى كل منهما أن يٌثبت ذلك بالصورة والمشهد المصوّر والتصريحات".

التواجد المسيحي بين المدن والأرياف!

وفي الواقع الفعلي نجد أن هذه (الوقائع) موجوده فعلاً.. وإلى جانبها (وقائع) أخرى فيها شوائب سلبية في بعض المناطق, وفي مواقع أخرى يكون عكسها تماما. هذا التنوع والتناقض يعود الى أكثر من سبب وعامل, ولكن وضمن هذه الظروف المتداخلة والمعقّدة يمكن أن نرصد التالي:

1ـ في المدن وحيث يكون للمسيحيين تواجد واضح, وأماكن محددة في السكن، وانتشار مهني واقتصادي ووظيفي داخل المدن ككل, نجد أن الحياة فيها للمسيحيين مثل البقية من السكان، لا تستطيع ان تجد الفرق والفروقات إلا ببعض المظاهر الخاصة، مثل اللباس والشارات الدينية والصلوات والأعياد الخاصة. وحتى اللباس لم يعد له خطوط واضحة في التمييز ببعض المناطق داخل المدن نفسها. وهذه الصورة الواقعيّة لا تجعلنا نتجاهل وجود فروقات واضحة ببعض الاحياء والمناطق نظرا لعدم وجود سكن مشترك.

على ضوء هذا الواقع يمكن القول بثقة, إن المسيحيين في المدن - خاصة الكبيرة منها- لهم حضور وتأثير وبيئة إيجابية. فحيث تكون الثقافة المدينية واضحة في الاقتصاد والثقافة والخدمات يكون الكل للكل, والبعض مع البعض, وتصبح الفروقات ألوانا وتنوعا. لذا تصبح الصور والمشاهد المصوّرة والوقائع التي تشدد على العيش الواحد والمشترك لها مرتكزها الفعلي.

2ـ في الارياف هناك قرى تضمّ اكثر من جماعة, ولها تاريخ طويل ومشترك, يكون العيش فيها واضحاً ومستقراً، تجري فيها مياه الجماعات بسلاسة وعذوبة, ضمن طباع الريف الميالة الى تأكيد الفروقات؛ إن كان على مستوى الاعتقاد أو على مستوى الانتماء الأهلي العائلي أو العشائري، دون أن يفسد للودّ قضيّة وللسمَر السمّار. في حين أن القرى ذات المعتقد الديني الواحد, الواقعة إلى جانب قرى أخرى لها معتقدات أخرى، تبرز خطوط التمايز بوضوح أكبر، كما تكون فرص التحشيد والتوتر أكبر حظا, وقد تصبح هذه الخطوط عندما يكون التوتر عاما كما يحدث الآن بسورية ذي طابع جامح له تداعيات مؤذية ومجنونة.

3ـ في المدن والأرياف... الحياة هي لغة العيش، بمعنى الاحتكاك والتنافس والتناكد والتشارك والطموحات. وبلادنا العريقة بالقدم, أوجدت قنوات عرفية وقانونية لضبط الوقائع الحياتية, فكلما كانت التوترات الحادة محدودة الانتشار في المساحة الجغرافية أو الاجتماعية تكون السيطرة عليها ومحاصرتها أسهل وأيسر وتكون القنوات العرفية والقانونية المحلية هي المدخل لفكفكتها. أما في الأزمات ذات الاتساع الكبير والامتداد الشامل - كما هو حالنا الآن- فما تزال قنواتها ومداخلها مفقودة إن كان على صعيد العرف والتقاليد, أو على صعيد النظام القانوني العام, الأمر الذي يجعل الجميع كل الجميع وبدرجات متفاوتة يشعرون أن الأمان الاجتماعي والأمن الشخصي وحقوق الحياة الطبيعية, ريشة في مهب الريح رغم وجود مؤسسات الدولة وقوانينها, ورغم القناعة بالأعراف الاجتماعية المختبرة, ورغم كل ما يمكن ان يقال بهذا الخصوص.

وهذا ينطبق على المسيحيين وغيرهم, ولكن هذه الحالة تكون أوضح وأعمق عن الجماعات والمتحدات الاجتماعية التي تشعر بنفسها انها صغيرة قياسا بغيرها, وهنا يصحّ ان نتوقف عند فكرة (تشعر بنفسها انها صغيرة) فشعور جماعة ما بأنها صغيرة ولكن لها دعم ومساندة من خارجها ومن جماعة مماثلة يختلف عن شعور جماعة بأنها صغيرة وضعيفة وليس لها سند ولا دعم، وهذه حالة المسيحيين السوريين (وغيرهم أيضا) الذين يشعرون بأنهم ضعاف ومستضعفون، رغم الدعم الأدبي والاعلامي الغربي الذي يسمعون به. والذي يقتصر في الأعم الغالب على تيسير شؤون الهجرة, والتعاطف الإعلامي الذي يضمر في طياته مصالح دول ومؤسسات أكثر مما يحمل من تعاطف مذهبي وديني.

مفارقة الهوية بين الاجتماعي والديني!

4ـ إذا لم ندخل الى المشهد السوري من حقل السياسية، ونطلّ على التضاريس الاجتماعية والمسارات التي تتحرك فيها والعوامل المؤثرة فيها وتأثيرها هي بها، نكون قد جانبا الصواب المعرفي ودخلنا في الطرق الضبابية الوعرة، التي تحجب ضوء الشمس عن إدراك ما يجري في سورية.

والمفارقة الحادة والمعقدة تكمن في أن الدخول إلى التضاريس الاجتماعية والمتحدات الاجتماعية المتموضعة فيها ومساراتها، لا يمكن النظر إليها بعين الفعل السياسي المباشر الذي يقتحمها؛ بل لابدّ أن يكون الدخول من منظور أوسع وأعمق، يعتمد القواعد والآليات المؤثرة والمحركة للجماعات والمتحدات الاجتماعية في هذا الظرف بالذات، وعين السياسة أحد أدواته والحالة المسيحية مثال على هذه.

ولطالما الحديث عن المسيحيين، يمكن ان نوصّف الصورة العامة عنهم كما هي على أرض الواقع. وأبرز ما فيها أنها تظهر الجانب الاجتماعي لهم أكثر من أي جانب أخر، والظريف في هذا الجانب أن التمييز فيه لا يظهر إلا من خلال النساء؛ لباسهن تحديدا فالمرأة المسيحية حاسر الرأس داخل البيت وخارجه, وملبسها بسيط الحشم إذا ما نظر إليه من مألوف اللباس. وهي لا ترى نفسها ضمن قواعد (الحرملك)، بل لها قواعدها الخاصة في حدوده.

فتراها تألف الحديث من اللباس، وتشغف في جديده, حتى استقر الرأي فيها أنها أوربية

المزاج والهوى, وهذا لُبس والتباس ترك أثرا متوترا مأزوما، خاصة داخل البيئة الاجتماعية المحافظة. وخطوط هذه الحالة المأزومة، تتباين في حدّتها حسب التوضّع المديني والريفي أو التجمع المتنوع والآخر المتشابه في معتقداته الاجتماعية والدينية، الأمر الذي يدلل على أن هذه الظاهرة اجتماعية الطابع اكثر منها دينية، رغم مظهرها وتشابكها الديني.

والجدير بالذكر أن هذه الظاهرة أخذت معنى جديدا منذ أوائل الثمانينيات حيث بدأت تكتسي طابع (هُويّة) وعنوان انتماء, نظرا لغياب البيئة المؤسساتية للمجتمع المدني, فأصبح اللباس ظاهرة تحمل وظائف جديدة لم تكن قبلها بهذه الحدّة.

المشاركة السياسية المسيحية!

5 ـ مع نشوء الدولة السورية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى ظهرت مشاركة بعض الرجالات المسيحيين في الحياة العامة السياسية والحزبية، وازدادت اتساعا وحيوية مع الزمن السياسي حتى أصبحت هذه المشاركة كمسيحيين أفراد, جزءاً من المألوف المستقر عموما.

ومع انتصار سياسة الرأي الواحد والحزب الأوحد والقائد الوحيد وفلسفة الأزل والابد في الحياة السياسية والحزبية السورية، استمرت مشاركة الافراد المسيحيين في الشأن العام داخل النظام الرسمي وخارجه كأفراد (مواطنين)، لهم أراءهم الخاصة كغيرهم من المشاركين الآخرين, مع إقرار ضمني أنهم (مسيحيون) أي (يمثلون) المسيحيين بالدلالة الرمزية والبروتوكولية دون إشهار عام، بسبب غياب حالة مؤسساتية (سياسية) لهم, الأمر الذي ينسجم مع توجهات ودور الكنيسة في الحياه العامة. وليس خافيا أن هذه الممارسة سارية داخل إدارات الحزب القائد ومجالس الإدارات المحلية ومجلس الشعب والوزارات، وحتى داخل المؤسسات الامنية والعسكرية. دون أن تصل إلى وزارة الأوقاف الخاضعة لبروتوكولات صمت القبور، وآلية السفاح لقواعدها ذات القرون الأربعة عشر.

6ـ معتقدات (الاغيار) وثقافتها. حيث تتميّز المتحدات الاجتماعية بنسجها معتقدات خاصة عن نفسها وعن الآخرين المشتركين في العيش معها، إن كان في الحيز الواحد أو الآخر القريب، وعلى المدى الطويل تصبح هذه المنسوجات المعتقدية مسلّمات بدهيّه يقاس عليها, حتى أنها قد تستخدم كأداة تعريف للجماعة وللجماعات الأخرى، وعادة تكون هذه المعتقدات شفوية لها شكل الحكاية وبالعامية (السوالف) الشعبية، ذات المرونة العالية القابلة للإضافات والتحوير حسب الراوي و الزمان والمكان والظرف المنتج لها وشغف بيئتها، حتى تغدو (ثقافة) راسخة تحدد خطوط التمايز بين الجماعات، بوصفها مجمع ذكريات تحكي عن الاغيار وعيوبهم وتقصّ اخبار الجماعة ومعاناتهم وبطولاتهم وتظهر معاني تفوّق الجماعة عن نظيراتها بحيث تصبح هذه (الثقافة) هي عين الحقيقة والتاريخ. وأيضا منبع الحساسيات والزوايا الحادة التي تدبب رؤوسها الأزمات الكبرى.

حالة توازن ونقطة التقاء!

بعد هذا العرض عمّ الصمت فجأة بينهما وبدى الحديث قد وصل إلى منتهاه، ولاح التعب على صديقي, وبعد هنيهات قالت له كلاما لم أسمعه، فقال:

"نعم مازلت عند قناعتي أن للمسيحيين فرصة ودورا استثنائي في هذه الظروف, فهم حالة توازن ونقطة التقاء مشتركة بين المتقابلين، وهم أيضا حالة مرغوب في كسبها من غالبية الأطراف (كل لأسبابه) وبكسبها يكون الأثر وفيراً... من الناحية الأدبية والمعنوية والحضارية العامة. أما المدخل لهذا الكسب فلا يكون إلا عندما يسود الحوار الهادئ والتواصل الودود، والتعقّل المنصف الرافض لأدوات الحرب والسلاح والتحشيد الطائفي، وهنا تكمن أهمية الدور الاستثنائي للمسيحيين في هذه الظروف؛ فلقد عبّرت الكنيسة بوضوح عن هذا الموقف الذي يلامس مصالح ومشاعر الأكثرية الساحقة من السوريين، والذي أدّى إلى نجاح جزئي للسلطة في تسليح بعض المسيحيين بحجة الدفاع عن النفس، وبقاء الأكثرية منهم خارج هذه اللعبة المجنونة، وأرى في هذا أرضية صلبة لبناء مجتمع ديناميكي قابل للتطور والازدهار.

أما النقطة الجديرة بالتوقف عندها باعتبارها أساسية في فهم حالة المسيحيين، انهم متحد اجتماعي لهم ميزه التكوين الاهلي, وليس لهم مرجعية خارج الكنيسة ونظامها الكهنوتي، الذي يكرّس ويعلّم العقيدة المسيحية ونظامها التربوي، دون الدخول والتدخل في دهاليز السياسة ومهرجاناتها، مع الالتزام ببروتوكول الدعاء لرأس السلطة الزمنية بالتوفيق والنجاح في واجباته العامة، والدعاء لراعي الكنيسة ورئيس كهنتها بالصحة والعافية، الأمر الذي يجعل إقحام (حالة المسيحيين) في الشأن السياسي العام بشكل مباشر إشكالية مستعصية، ومُربكة ظهرت ملامحها بحده وسطوع مع الانفجار الكبير السوري".

انهيار صورة "الوطن"!

بعد هذا العرض, قالت له: ما وصلني من عرضك هذا بأنك تميل إلى التأكيد والثقة أنه مازال هناك فرصة كي تظهر لغة الحوار والمناصحة والتعقّل على طاولة الانصاف والاعتراف، بأن الحياة الطبيعية تنطلق من لغة حق العيش, وحقوق الكرامة. والكرامة بنيان متعدد الطبقات, متنوع الاتجاهات, لها نوافذ وابواب وفتحات تهوية, نوافذ لها شرعة الفرد، إنسان وكينونة وكيان, لا يمكن للبنيان ان يقوم ويُصبح اهلاً لاسمه, ومعنى لوجوده إذا لم تكن هذه النوافذ واضحة الشكل, ملموسة الأثر جليّة الألوان.

فلم تعد الحياة الحديثة الآن تقبل أن ترسم صورة نافذة أو نوافذ على جدران هذا البنيان (الوطن) وتكتب عليه الحقوق الفردية والعامة للعيش الكريم مصانة، وخلف هذا الجدار تقبع ورشات تصنّع أدوات التعذيب والتجريح، ومكاتب (تبدع) بإنتاج تصاميم حديثة لفنون القهر والظلم والفتك بأبسط معاني الوجدان والوجود الإنساني.

لم تعد الحياة الحديثة تقبل, أن تنتج مادة او سلعة مجهولة التكوين، ومحجوبة عنها عناصر تكوينها، ونسبة كل عنصر فيها ومدة صلاحية استعمالها. مدرّعة بجهاز حماية لها، ومنها, إن خالفت ما تقول عن نفسها. وهذه قاعدة يجب ان تحكم شؤون السوق والسلطة والثقافة معا.

جهاز أبوابه مُشرّعة، ونوافذه تدخل منها الشمس آن أشرقت, وحتى نُعاسها. جهاز ألوانه مقنعة وجليّة الشفّ يُعيد المعنى لقول العرب (الكذّاب يخيف نفسه وهو آمن) وهذا القول يعني أنه عرّض نفسه للمطالبة بحقيقة ما قاله.

جهاز يمكن القول فيه، أنه المدخل الرئيس لهذا البنيان, والقول عنه انه عنوان هذا البنيان, وكلمات هذا العنوان: قداسة الفرد وإيمانه وصيانة الجماعة التي ينتمي لها

أهلياً ومدنياً وسياسياً، ورعاية معتقداتها ومقدساتها وطرق عيشها وأحلامها.

جهاز يُعرّف نفسه أنه المهندس لتوضّع الجماعات, والصانع للجماعة الكبرى, التي تقي من شرور ضيق المصالح والأهواء ورعونة الجهل النشيط الذي يرافق ضحالة الثقافة والمعرفة بالعلوم, وركاكة التبصّر بأركان الايمان وقواعد عمارته للجماعات الصغرى.

جهاز يسري في شرايينه الحق العام وعميمه, ويحمل في قلبه خشوع الإيمان بالله الواحد, ويقينياته الكبرى, وحكمة أركان الإيمان وتنوع تجلياتها وفرقها. ويؤمن أن الله آحاد وأن عُبّاده عشرات ومئات وألوف, وأن لكل منهم طريقة ووظيفة ومعنى خاصة بهم, وأن الحاضن لهم جميعا إناء وحكمة (الله أكبر).

جهاز يُدرك تمام الفرق بين الأهلي الاجتماعي, وأعرافه وقيمه, ويعرف معنى وضرورة المؤسسات المدنية اللازمة لازدهار المجتمع وتحصين تكويناته المهنية والثقافية, ويؤمن أن المجتمع السياسيّ الذي ينظم توجّهاته, ويغني حيوية خيارته, ليس قِلادةً للزينة أو متحفا للصور والمقتنيات التذكارية او فئران اختبار لعمليات قضم ونهش لـ(منافسين محتملين)تحت سلطان شهوة السلطة, بل (دار الندوة) وبيت الحكمة التي تدير شؤون المصالح وتناقضاتها, وترجّح خيار الاصلح والانفع للمجتمع بأغلبيته, الذي سوف يكتشف نفسه وهُويّته بلغة العصر الحديث وقوانينه.

جهاز يتقن فقه التمييز بين الأهلي والمدني وقواعد الادارة للدولة, كما يعرف ويعرّف حدود كل منهم, يميّز بين ضرورة الايمان وحواضنه وقنواته, وبين شرعة الحياة وضروراتها وقواعد عملها التي تحكمها منافع الدنيا بنزواتها واحلامها, ولا يُحاكمها( بسيف السماء) بل ينثر نور السماء فيها .

مسارات التجربة التاريخية للإسلام!

ثم توقفت قليلا وقالت له: لذا ياصديقي ,لا تراني أشاركك الرأي, إن الفرصة قائمة للمسيحيين في هذه البلاد, لان الأسلام لا يقبل بما أراه بشؤون الدولة والمجتمع والجماعات والافراد والمعتقدات الأخرى, لأنه محافظ بتكوينه، جامد في تعامله مع المختلف عنه, والجديد الذي تفرضه لغة الحياة الحديثة.

نظرتُ إلى صديقي, فوجدته يأخذ نفسا عميقا, وأخرج لفافة تبغ من حقيبته واشعلها بعود ثقاب, وعبّ منها شهيقا مديدا, وبدت على ملامح وجهه إشارات الغضب وأمارات التحفز, ثم قال لها:

ما سمعته منك من أفكار وأراء ومواقف, يشكل حزمة جليلة, فيها قوة الحزمة عندما تكون مترابطة ببعضها، ومتناسقة بتكوينها, تربطها عروة وثقى, جُمع نسيجها من أشجار بلادنا، أشجار شربت الماء من سماء بلادنا, واكتست صلابة حلتها من مدارات الشمس المعتدلة لبلادنا، وكرم أرضها التي ما حرمت أحدا من أبناءها قصدها للعمران والفيء بظلها.

ولكن ما يمكن لحظه بهذه الحزمة من أفكارك تلك, وجود أكثر من نوع فيها, فقصب الخِيزُران واضح الحضور في حزمتك, وشهرتها أكيدة في اعتدال قوامها ومتانة نسيجها, تصلح للرمح والقلم, وفيها أيضا بعض من أغصان الدلب والحور التي يسهل نخرها، لرطوبة نسيجها الذي يصلح عشا لديدان الخشب. فكان لجمعها نقصا, لا يليق بقصب الخيزُران .

فحديثك عن البنيان (الوطن) ونوافذه وبواباته, يعكس رصيدا عميقا ورصينا من المعرفة والخبرة الانسانية, نحن في مسيس الحاجة لها, وقد تأكدت ضروراتها بهذه الأيام بعد هذه المحنة التي تمر بها سورية, وبعد ان تعرّت الحالة التي يقوم عليها هذا البنيان, والتكوينات التي لازمت بنيته؛ تكوينات ظهرت فيها نخور المصالح الضيقة, وبثور الجشع وغرور القوة الخرقاء, وهوس السلطة وفجور الشهوة التي تأكل غيرها وتنهش نفسها. فزرعت الارض يبابا, بدلاً من زرع الشجر, وصنّعت الخيلاء والادعاء بديلاً عن تواضع العليم الحكيم, ودعاء المؤمن الخشوع.

فكل هذه الافكار والرؤية، نتوافق عليها, وكل ما قيل في هذا المقام يمكن اعتباره واحدا. ولكن ما أثار عجبي واستغرابي ما طرحتيه عن الاسلام ورؤيتك له. ومصدر استغرابي, أنك ترعرعتِ في سورية, وهي بلد إسلامي عريق في معتقداته وله تقاليده الناضجة في ملامحها, وهو إحدى الينابيع الكبرى للتقاليد الاسلامية الراسخة.

والإسلام من زاوية التجربة التاريخية والحضارية قد قدّم أكثر من منحى ,وأكثر من مسار, ويمكن إن نرصد أهم وأكبر هذه المسارات التي طبعت التجربة الاسلامية تاريخيا بشكل عام, والتي لها تعبيرات جديدة الآن، وهذه النقطة بالذات هي موضوع حوارنا الآن.

فبالنظرة العامة الشاملة يمكن إن نسجل المسارات التالية:

1- الإسلام الشامي, الذي تميّز بالعراقة والاعتدال والوسطية, وله بهذا الارث العظيم.

2- الإسلام النفطي, الذي تبلّور بحلّة جديدة مع طفرة النفط في اواخر القرن العشرين, حيث جمع ما بين العودة إلى الأصول والبساطة الاولى للإسلام وبين غرور المال والذهب الاسود.

3- الإسلام الهندي، والذي وقع تحت تأثير التجربة الهندية أثناء التجربة الكولونيالية البريطانية، التي أفرزت من جملة ما أفرزت الدولة الاسلامية في الهند الشرقية والغربية (باكستان-بنغلادش) (كحل) للمشكلة الاسلامية في الهند وحصار للطموحات الهندية العظيمة. وقد تميّز هذا الاسلام بالتشدّد وبفكرة الحاكمية لكتاب الله.

4- الإسلام الاناضولي, وهو صاحب التجربة المديدة في القرون العشرة الأخيرة, فله في فنون الحروب باع طويل، وفي خبرة إدارة الإمارات تراث جم, والتدقيق بمراحله المتعددة ليس بهذا المقام.

تنوع التجربة الإسلامية!

ويمكن القول أن هذا التمييز له صفة التقرير أكثر منه صفة التحليل والبحث, وجاءت مبرراته من ضرورة حوارنا هذا, ومن اعتراضي على القول أن الاسلام "محافظ بتكوينه وجامد في تعامله مع المختلف عنه والجديد" فاذا نظرنا الى هذا الرأي-الحكم, بأبسط انواع المنطق, وبعقل سليم بسيط, لا يحمل تصوّرات استشراقية غربية, نقول بثقة واطمئنان: انه لا يجوز القول والحكم على تجربة بهذه العراقة وبهذا التنوع في مساراتها التاريخية ومنعطفاتها العديدة, بأن لها صفة واحدة وتكوين وحيد. كما لا ينفع أبدا بلغة العلم والبحث التاريخي أن نشارك المفكر السوري أدونيس رؤيته في كتابه (الثابت والمتحول) لهذه التجربة الإسلامية المتنوعة رغم جهده في توضيح رؤيته هذه.

ويكتسب الموضوع أهمية ومسؤولية, عندما ندرك ان لهذه التجربة التاريخية المديدة بعد معتقدي إيماني, الإمر الذي يتطلّب أن نضع هذا البعد في مكانته اللائقة بتكوينه وماهيته, كما نضع حوامله الاجتماعية في مساراتها الزمانية وشروطها التاريخية أيضا على أرضية أن لكل منهما مكانته ومكانه وبهاءه وضميره الخاص.

إن النظر الى كل هذه المسارات الكبرى ومنعطفاتها العديدة ووضعها كنسق واحد, ينتمي فكريا ومنهجيا الى الثقافة الشمولية التي ترى الناس وحاجاتها واحلامها وتوجهاتها بنسق واحد يشبهها. وهذا ما حكمت عليه ثقافة القرن الحادي والعشرون.

ولطالما الحديث عن البعد المعتقدي و الإيماني للإسلام لابد لنا ان نتوقف عن تعبير الاسلام . فهو تعبير عام والتعاطي معه بهذه العمومية, إشكالي. والنظر اليه بهذه الرؤية وضمن هذه الزاوية يوقعنا في فخ (اغلاق الحوار) وشرك حوار الطرشان, المعزّز بسلاح القدح والذم, وهذا ما لا تقبل به الحياة الطبيعية والحضارية.

فعندما نقول الاسلام علينا ان نميّز ثلاثة أنساق على الاقل متلازمة مع بعض ومتمايزة عن بعض: خطاب ورسالة- تجربة وتاريخ -ثقافة وارث.

وعندما نقول خطاب ورسالة علينا ايضا ان نفرّق بين المناسيب التالية. الايمان الفطري للناس, الدين واحكامه وتعالميه كما ورد في القرآن الكريم, الفقه والتشريع كما استدلّه وأستنبطه واستنطقه أئمة العلماء وأكابرهم عبر أهم العصور, والثقافة والأفكار والبرامج التي تتشكل الآن على ضوء منهج اسلامي كما يراه ابناءه واتباعه ومريدوه.

وهذه الفقرة الاخيرة هي ما تعنينا الآن بحوارنا هذا لأنها تكتسب اهمية كبيرة على ضوء ما يجري في سورية وعلى الاثر الكبير الذي يؤثر به الدين عامة والدين الاسلامي خاصة في عباده وفي الاستثمار السياسي الذي يتصدر المشهد السوري. فاختصار كل هذه الانساق والمناسيب ووضعهم ضمن فكرة واحدة او في سلّة واحدة نكون قد أخطأنا بحق أنفسنا, وابتعدنا عن العلم والثقافة الحديثة, وعن الاعراف المحلية العريقة للعيش النبيل, واساءنا الى الاسلام وتجربته وقيمه واتباعه، من هنا نكتشف الخطر الكبير والأثر الفظيع الذي يتركه الاستخدام العام لفكرة الإسلام والنتائج التي تترتب عليه ان كان على مستوى الحياة أو الثقافة والسياسة أو العقائد الإيمانية.

التعليقات (6)

    السوري

    ·منذ 9 سنوات 4 أسابيع
    المسيحيون في سورية كغيرهم في بداية الثورة قسم مع وقسم ضد كما المسلمون السنة ولهم عاداتهم ومنها ان لباسهم ليس كالاسلامي وقد كان المسلمون يلبسون لباس سافر اكثر منهم الى حين بدء انتشار القبيسيات في دمشق والاموال السعودية للتحجب لان الشعب يريد التغيير فجدتي كانت تغطي راسها ب ايشارب او لفحة ولكن بناتها لم يغعلوا بعد انتهاء الاستعمار العثماني البغيض الذي يذكره المسيحيون بايام طورق او ايام الاضطهادات التركية وكانت فرنسة تتدخل للضغط على الكرسي العالي ليخفف الضغوط عليهم فكان هو قشتهم للتعلق بها لمساعدتهم

    السوري

    ·منذ 9 سنوات 4 أسابيع
    تابع ولكن بعد الحرب العالمية الثانية انتهى دور فرنسة ولعب المسيحيون دورا في الاستقلال ضد فرنسة وعلى راسهم فارس الخوري وكانت نسبتهم عالية اكثر من العلويون وكان عدد سكان سورية ثلاثة ملايين ونصف وكان لهم حضور سياسي واضح في الاخزاب ولهم زعامات الى حين استيلاء البعث على السلطة وكمم الافواه وطارد الجميع بما فيهم الشيوعيون حتى ايام جمال عبد الناصر والوحدة ثم بجات الهجرة للطبقة المثقفة والقائدة فملئ الفراغ رجال الدين لهرب القيادات المسيحية ففي فنزويلا اليوم 600 الف حلبي فقط عدا دول الامريكيتين كما هاجر

    السوري

    ·منذ 9 سنوات 4 أسابيع
    تابع2 كما هاجر المسلمون ولكن باعداد اقل وانضموا للحزب الناصري والبعث حتى ولو لم يكن يحبونه فصار لهم نفوذ في الدولة والجيش وانحسر الدور المسيحي فبعد باسيل صويا واخوه وهم برتبة لواء وغيرهم الى ابو عبدو امين الحافظ والتهريج ولا اعتقد انه كان هناك مسيحي واحد من حلب له سلطة بعد جورج محصل ودوره في الانفصال وجرجي قطوش وزعامته على احياء الجابرية والحمدية والسليمانية واصبح من الماضي حتى ان بعض المخاتير كالسليمانية ليس حلبي بل من الجسر والميدان من قرى حماة ومن استلم اي وظيفة كان بسبب خبرته وقد يكون رئيسه

    السوري

    ·منذ 9 سنوات 4 أسابيع
    تابع3 قد يكون رئيسه حزبي ومسلم لعم وجود مسيحي حزبي وخلال تلك الفترة ساختصر لم يعد هناك قيادة مسيحية القادة غادروا والمسيحيين ايضا فتناقص عددهم وبدات الثورة فالناس كان مع وضد ولكن الثورة اخذت منحى ديني سلفي وهابي ففي البداية كان المسيحيون مع الثورة ومثال بسيط هو ابنة قسيس في حلب من بيت مشحور وقتلت امها من قبل الجيش بدلا عنها وفي يوت الجنازة وفي الكنيسة لفت بعلم الثورة وهذا يعني موافقة الكنيسة ماذا بعد ذلك داعش جزء من الثورة والنصرة كذلك وتم اغتصاب الثورة وتحويلها الى ثورة دينية وهذا ما يريده النظ

    السوري

    ·منذ 9 سنوات 4 أسابيع
    تابع4 النظام فبعد الشعب السوري واحد اصبحت المسيحي على بيروت والعلوي للتابوت فدفعهم الاسلاميون الى احضان النظام دفعا ان لم يكن بالحياد كان بالتسليح كما حدث في وادي النصارى حيث خطف المسيحيون في الحواش وعندما ذهبوا للدولة قالت لهم نحن ليس لدينا العدد الكافي سنعطيكم السلاح وانتم دافعوا عن انفسكم والثوار هم السبب وكذلك محردة وقرى حمص بعد الهجوم على القرى المسيحية السريانية وبدات الهجرة هجرة جديدة وكبيرة اكبر من الهجرة ايام الاتراك لن اذكر ما تم فعله في القنية والجديدة والرقة ونينوى والموصل وقرالاشور

    0

    ·منذ 8 سنوات 10 أشهر
    NONE SENSE.
6

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات