وعلى الرغم من نقمة أبناء المحافظة على النظام لما أوصلهم من حال تراجع في جميع مؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية، إلا أن النظام نجح خلال سنوات حكمه التي تجاوزت الأربعة عقود، في تخويفهم بقبضته الأمنية كما سائر أبناء المحافظات الأخرى، كما عمل على تشتيت كلمتهم وقوتهم بتقريب وشراء ذمم بعض شيوخ ووجهاء العشائر في المحافظة التي يغلب عليها الطابع العشائري بالشكل الأساس.
إلا أن أياً من النظام أو الثوار لم يكن يتوقع أن هتاف مشجعي فريق الفتوة ذو القاعدة الجماهيرية العريضة بدير الزور "الشعب يريد إسقاط النظام" أثناء خروجهم من مباراة جمعت فريقهم مع تشرين اللاذقاني "المدعوم" في 18 آذار 2011، شرارة نهوض المارد الديري وخروجه من قمقمه وانضمامه فعلياً لثورة الشعب السوري وليسجل ذلك المارد في سلميته وتسلّحه أرقاماً قياسية ثورية عديدة.
بعض ثوار دير الزور لم يرضوا بأن تكون شرارة الثورة فيها التباس ما بين "شغب جمهور" ومظاهرة تعبّر عن التضامن مع درعا الثائرة التي كانت تتوارد الأنباء يومها عن استشهاد عدد من أبنائها برصاص الأمن في 18 آذار 2011، فاتفق مجموعة من شباب حي المطار القديم بدير الزور بعدها بأسبوع أي في جمعة "العزة" 25 آذار 2011 على تنظيم مظاهرة تكون شرارة صريحة للثورة في المحافظة.
وبالفعل كانت نقطة الانطلاق يومها من جامع عثمان بن عفان في حي المطار، فما أن فرغ المصلون من أداء صلاة الجمعة في ذلك اليوم (25 آذار) حتى انطلق عدد قليل من الشباب بالتكبير وهتافات الحرية والسلمية ونصرة درعا، وانضم آخرون للمظاهرة خارج الجامع ولم يستمر المسير سوى حارتين حتى كان الشبيحة وعناصر الأمن وأذناب النظام لها بالمرصاد فتم فضها بالقوة واعتقال المشاركين فيها.
مقومات عديدة ساعدت في جعل حي المطار وجامع عثمان تحديداً مؤهلان لاحتضان انطلاقة الثورة في دير الزور أبرزها أن ميزة حي المطار هي أن غالبية سكانه يمتّون لبعضهم بصلات القرابة والعشائرية حيث بدأ بعض أبناؤه بتنظيم أنفسهم والتواصل مع الأقارب والأصدقاء في باقي أحياء المدينة ومحاولة استقطابهم في أيام الجمع إلى جامع عثمان للانطلاق بمظاهرات جديدة وكان المصير نفسه يواجه المظاهرات في كل مرة وهو هجوم الشبيحة بالعصي وضرب واعتقال المشاركين فيها.
الجمعة العظيمة
مظاهرة "الجمعة العظيمة" في 22 نيسان 2011 كانت نقطة فاصلة في مسيرة الثورة بدير الزور، فبعد اللجوء خلال الأسابيع التي سبقتها إلى تنظيم مظاهرات طيارة رديفة تنطلق من الجوامع في الأحياء المجاورة لحي المطار لتشتيت الأمن عن مظاهرة جامع عثمان، اجتمع العشرات من الناشطين في "الجمعة العظيمة" بالساحة المقابلة لمسجد عثمان في محاولة منهم للملمة وتنظيم مظاهرة محدودة في ظل التشديد الأمني الخانق والرعب الذي كان ما يزال عالقاً على النفوس.
إلا أنه سرعان ما انضم إلى أولئك الناشطين المئات من المتظاهرين الذين تزايدت أعدادهم بشكل كبير لينطلق الآلاف بعدها في مظاهرة استطاعت كسر الطوق الأمني الذي حاول تطويقها ومنعها من الخروج من الحي، وتوجهت المظاهرة إلى ساحة الحرية أو (الباسل) كما كانت تسمّى وقتها، وتمكن المتظاهرون من نزع تمثال باسل الأسد على حصانه الذي كان مزروعاً وسطها وإحراقه بعد رميه بالأحذية، وردد المتظاهرون هتافات إسقاط النظام إضافة إلى الهتاف الذي تفرّد أبناء المحافظة بترديده وهو "يا جامع ويا جبان هاي الدير مو لبنان"، في رسالة تحدٍ واضحة للعميد جامع جامع رئيس فرع الأمن العسكري بدير الزور وقتها والمسؤول الاستخباراتي السابق المعروف في لبنان وأحد المتهمين باغتيال رفيق الحريري.
ذهول جامع
يروي عنصر أمن منشق عن الأمن العسكري بدير الزور كان حاضراً أحداث الجمعة العظيمة، أن جامع جامع الذي قتله ثوار دير الزور عام 2013، حين وصل مع عدد من قادة النظام الأمنيين إلى تمثال الباسل المحترق بعد انفضاض الاشتباكات العنيفة بالحجارة التي اندلعت لساعات بين المتظاهرين وقوات الأمن كان في حالة ذهول وصدمة، فيما كان بعض عناصره في نفس الحالة حتى أن بعضهم أجهش بالبكاء وسط صيحات وعبارات كفر وشتائم، وذلك كونهم وقفوا عاجزين أمام حماية التمثال مع عدم تلقي أوامر بإطلاق نار بشكل مباشر على المتظاهرين خوفاً من إشعال المحافظة وجرها للثورة في حال سقوط شهداء.
التطويق
ومع هول الصدمة على أجهزة أمن النظام بعد تدمير تمثال الباسل ونزعه من وسط دير الزور أمر القادة الأمنيون التابعون للنظام بإغلاق جامع عثمان بحجة الصيانة لتستمر المظاهرات (على الضيّق) ومن ثم تم تنظيم اعتصام ليلي أمام الجامع لثلاث ليال متتالية بهدف المطالبة بإعادة افتتاحه وإطلاق سراح متظاهرين معتقلين لدى النظام وليستفيق أبناء الحي على إقامة حواجز في جميع الشوارع المؤدية إلى الجامع، إلا أن هذا شجع المتظاهرين على تنظيم مظاهرات طيارة ومكثفة في باقي الأحياء نجحت في تأريق الأمن وأجبرته على فك الحصار عن الحي وجامعه الكبير ومن ثم إزالة تمثال "حافظ الأسد" طوعاً من الساحة المسماة باسمه أيضاً أمام متحف دير الزور خوفاً من ملاقاته مصير ابنه "الباسل".
أول مليونية
تسارعت الأحداث في دير الزور كباقي المحافظات الثائرة واتسعت دائرة المتظاهرين مع سقوط وتشييع أول شهيد برصاص الأمن بمدينة دير الزور)معاذ الركاض17 عاماً) مطلع حزيران 2011، حيث خرج أبناء مدينتي دير الزور وحماة لوحدهما في أول "مليونية" وذلك في جمعة "أحفاد خالد بن الوليد" بتاريخ 22 تموز 2011، تضامنا مع أهالي مدينة حمص التي كانت تتعرض لعملية عسكرية عنيفة قبل أسبوع، وبلغ عدد المتظاهرين أكثر من 550 ألفاً تجمعوا في ساحة الحرية بدير الزور عقب صلاة الجمعة بينما تجمع 650 ألفاً في ساحة العاصي بحماة، وذلك بحسب التنسيقيات المعارضة ووكالات الأنباء المختلفة.
أول اجتياح
ومع انتشار خبر ومقاطع فيديو "المليونية" في جميع وسائل الإعلام، وما سبقها من مظاهرات واعتصامات ليلية حاشدة في "دوار المدلجي" وسط دير الزور، نجح النظام في جر أهالي المدينة لوضع الحواجز في الشوارع بعد أن لوّح بحملة اعتقالات واسعة تطال المتظاهرين، الأمر الذي كان ذريعة لحملة عسكرية كبيرة لقواته على المدينة مطلع آب 2011، وكانت بالتزامن مع حملة مشابهة على مدينة حماة، واستخدمت في تلك الحملتين الدبابات والمدرعات والمدفعية وسقط فيهما العشرات من الشهداء.
أول مئذنة
كانت مئذنة مسجد عثمان بن عفان بحي المطار القديم أول مئذنة في سوريا يتم تدميرها وتوثيقها بالصور والفيديو منذ اندلاع الثورة، حيث قامت عربات البي إم بي بقصف المئذنة بشكل مباشر وهدمها في 10 آب 2011 مع بداية الحملة العسكرية الأولى على المدينة كنوع من الانتقام من المسجد كون أولى المظاهرات كانت تخرج منه، وقامت قوات النظام بعدها باحتلال الجامع وجعله مقراً وسكناً لعناصرها كما قامت بإحراق عدد من البيوت التي تجاوره وضرب أعمدة الكهرباء في الحي.
بداية التسلح
بعد هدم مئذنة جامع عثمان في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع أبناء دير الزور كان ذلك منعطفاً للعمل الثوري في المحافظة والذي لم يخرج كما باقي المحافظات عن سلميته بالشكل العام خلال الأشهر الستة الأولى، حيث بدأ الثوار وبعض عناصر النظام المنشقين بنصب الكمائن المسلحة لقوات النظام وشبيحته الأمر الذي كان نواة لتشكيل الجيش الحر في المحافظة الذي سرعان ما ألحق خسائر بتلك القوات وحرر غالبية مساحة المحافظة من سيطرتها.
وكان لـ"ملحمة الرصافة" بدير الزور نهاية آذار 2012 التي استشهد فيها 21 من عناصر الجيش الحر خلال معركة عنيفة خاضوها ضد قوات النظام وكبدوا فيها الأخيرة خسائر كبيرة، منعطفاً هاماً باتجاه دفع العمل المسلح في المحافظة.
أول مدينة محررة
بعد أشهر من مشاركة مدينة البوكمال التابعة لدير الزور في المظاهرات وقيام عدد من العناصر المنشقين عن جيش النظام وأبناء المدينة بمحاصرة فروع الأمن في المدينة والسيطرة عليها، تمكن الثوار من السيطرة على مطار الحمدان العسكري في 17 تشرين الثاني 2011 لتكون البوكمال أول مدينة محررة بالكامل في البلاد ولحق بها تباعاً معظم مدن وبلدات الريف الشرقي للمحافظة.
ورأى مراقبون وقتها أن التاريخ يعيد نفسه حيث أن البوكمال كانت أول مدينة سورية تتحرر بالكامل من الاستعمار الفرنسي عام 1945 وذلك قبل عام كامل من استقلال سوريا بالكامل، ما جعل الثوار يسبشرون خيراً بالواقعة.
أول طائرة
مع دخول الثورة على خط العسكرة عمل ثوار دير الزور على تسجيل أرقام قياسية في هذا المجال أيضاً حيث أسقط "أبو علاوي" المنشق عن جيش النظام، أول طائرة حربية للنظام من طراز ميغ فوق مدينة موحسن برشاش من عيار 14.5 ملم في آب 2012 وتم أسر قائدها وهو برتبة عقيد، لتتبعها خلال أشهر في المصير نفسه خمس طائرات أخرى.
الواقع الحالي
مع نهاية حزيران 2012 حشد النظام السوري حملة عسكرية كبرى على مدينة دير الزور والمحافظة عموماً بعد الخسائر التي تكبدتها قواته فيها على يد الثوار، ما دفع مقاتلي الجيش الحر للنزول إلى شوارع دير الزور ونصب الحواجز لصد تلك الحملة الأمر الذي نجحوا فيه كما تمكنوا من بسط سيطرتهم على معظم أحياء المدينة باستثناء حيي الجورة والقصور وبعض المناطق القريبة منهما والتي تتمترس قوات النظام فيها محتمية بأكثر من 300 ألف من سكان تلك المناطق والنازحين إليها.
وبذلك استطاع الثوار السيطرة على أكثر من 90% من مساحة المحافظة، وبقيت تلك المناطق تحت سيطرتهم إلى منتصف عام 2014 حيث تقدم تنظيم "الدولة" من العراق عبر البوكمال شرقاً وعمل بواسطة الأسلحة المتطورة التي غنمها من الجيش العراقي على بسط سيطرته ونفوذه على تلك المناطق وطرد الثوار منها وليتقاسم هو والنظام حالياً السيطرة على المحافظة.
التعليقات (8)