رواية (سراب برّي) لعبد الرحمن مطر: شهادة حية على نظامين مسّتبدين

رواية (سراب برّي) لعبد الرحمن مطر: شهادة حية على نظامين مسّتبدين

في سياق ما يُعرف بـ"أدب السجون" صدرت الرواية الأولى للشاعر السوري عبد الرحمن مطر «سرابٌ بريّ»، منذ فترة وجيزة، وكما جاء بقلم المؤلف على الغلاف الأخير، هي شهادة حية على تجربة عاشها، وكتبها خلف القضبان، ونجح في تهريبها ورقة، ورقة. لكن ما يميز هذه الشهادة عن سواها، أن أحداثها تجمع سيرة المعتقل السياسي ما بين زمنين، قبل ثورات «الربيع العربي» ومن بعدها، وما بين نظامين استبداديين، نظام القذافي البائد في ليبيا، ونظام الأسد في سوريا.

ينفتح المشهد الاستهلالي في الرواية على براميل الموت وراجمات الصواريخ، وهي تدمّر المباني فوق ساكنيها في حرستا، وعلى رجل خمسيني مصاب بالربو، يحاول إنقاذ نفسه والإسهام بإنقاذ الآخرين: «الصورة ليست بعيدة عما حدث في تفجيريّ الحادي عشر من سبتمبر» يقول الراوي، و»الطفلة القتيلة بين يدي أبيها، تشبه حد التطابق نور الرضيعة اللبنانية، التي قضت بهجوم اسرائيلي على تجمّع للنازحين في مقر الأمم المتحدة، عام 1996. أية صلة تجمع القتلة؟».

وفي زحمة الفاجعة تمتد يد على كتف الرجل الخمسيني، وتوقظه من ذهوله، هي يد حازم، الشاب الذي لا تزال آثار التعذيب في خاصرته، يسأله إن كان اسمه عامر، ويذكّره بأنه التقاه في المهّجع 37 من فرع الخطيب، بعد اندلاع الثورة السورية، حيث «كان الصمت المشبع بالهلع، يخيم على ما يفوق المئتين وخمسين معتقلاً، تكتظ بهم الحجرة»، وحيث «الكثيرون ممن خرجوا أحياء منها، جرجروا بقايا أجسادهم، تسيل دماؤها على أطرافهم، في خطى أقدامهم الحافية التي تطبع شكلها الدامي على الأرض»، ومنذ تلك اللحظة تنتقل الرواية من مشهد الجنائز والأنقاض، إلى أقبية السجون في دمشق.

صور التنكيل، وتشابه الجلادين، تفتح ذاكرة عامر على الماضي وعلى منظومة أخرى من القمع، خبرها جيدا، حين كان يعيش ويعمل في طرابلس، واختطفه رجال الأمن من الشارع في وضح النهار، وتحت التعذيب اعترف بما لم يقترفه، ومن بعدها أُحيل إلى محكمة صورية، قاضته بالسجن المؤبد، لما يشكله من تهديد على الامن الليبي، وعلى خلاف ما هو سائد في كتابة الشهادة الحية بقلم من عاشها، لا يتطابق اسم صاحب السيرة مع بطل الرواية، ولا تأتي الأحداث بضمير المتكلم، بل يتولى القص سارد خارجي، يعتمد على تقنية الترجيع وتداعيات الذاكرة، وبذلك يضع الكاتب مسافة فاصلة بينه وبين تجربته الشخصية، ليبدأ بمعاينتها عن بعد، وإعادة صياغتها في قالب حبكة روائية، بطلها الأساسي هو المكان.

تتعدد الأمكنة من الشارع، إلى المنزل الأسري الدافئ فالدوائر الرسمية، وتستقر بين القضبان. وتكمن جاذبية السرد، في قدرة السارد على ترسيم المكان، وسبر أغواره، ليس بمعنى التوصيف الظاهري للشكل والأغراض، بل بوصفه فضاء تتقاطع فيه الدلالات الاجتماعية وانتهاك الحقوق، وحاضنة مولدة للمؤثرات النفسية، ومسرح لظهور الشخصيات، أو بمعنى آخر المكان باعتباره الحيّز الوجودي، وتبدو محنة المعتقل السياسي في علاقته بمفردات شرطه الجديد والقسّري، من الزنزانة، إلى أدوات التعذيب، انتهاء بوضعه في سجن مخصص للمجرمين، وليس لسجناء الرأي.

المكان هو الرواية، ومركز التفّريع والانعطافات في مسارها الحكائي، والسجن هو مسرح الأحداث، يبدأ السارد باستطلاعه، ثم اختباره، ويترك الدلالات والانتهاكات، تتراكم بالتدريج: «يبدو المعتقل حديث البناء: الأرض بلاط، والجدران مطلية بالأبيض، والنصف السفلي باللون المائل للأصفر اللماع، وللنافذة ألواح زجاجية من الداخل، تليها قضبان حديدية، ثم ألواح خشبية، وكل ذلك كي تكون مكانا مريحا للضيف، الذي إما رأى نجوم الظهر، قبل أن يدخل هذا المكان، أو أنه سيراها لاحقا، ويعدها مراراً». يرفع عامر فراشه ويكتشف «صفا طويلاً من الصراصير والزواحف الأخرى»، وعلى الحائط يقرأ عبارة محفورة «لا توقظ سجينا نائما.ً. ربما يحلم بالحرية»، وفي اليوم التالي يقول له المحقق: «عندنا الضرب، وعندنا التكسير، وعندنا الفلقة، وعندنا الكهرباء، وعندنا التعليق.. وعندنا أشياء لا تخطر على بال أحد. لن أطيل الشرح، كل اشكال وأنواع التعذيب مسموح بها عندنا. من الاغتصاب إلى القتل، وأنت تختار».

وبانتقال عامر من غرف التحقيق إلى السجن المركزي، تدخل الرواية في منعطفها الرابع، حيث المكان الخانق يغصّ بنزلائه المجرمين والوشاة، ممن يتعاطون المخدرات، وحيث الطعام ملوث، ومجاري المياه تفيض، وتقذف بقاذورات الحمامات على الغرف، كلما اشتد المطر وأُغلقت الأبواب، وحيث تُقام حفلات التعذيب والتعرّي في ساحة السجن، أسفل المئذنة وخلفها، تُنتهك كرامات السجناء بالاغتصاب قبيل الفجر، وتُمدد جثث من قضى بالتعذيب أو المرض والإهمال.

السرد طاغ، والحوارات قليلة وقصيرة، تأتي عند الضرورة، وبالفصحى، ومن دون جماليات خاصة، مهمتها على الأغلب التعريف بالشخصيات الجديدة، وشخصيات الرواية كثيرة، من أفراد أسرة عامر ومعارفه، إلى المحققين والسجانين والسجناء، لكنها تبدو وحيدة الجانب، ولا تظهر إلا بحدود علاقتها به، فعامر عبد الله، الشاعر والكاتب الصدامي، الذي ينحدر من الرقة، هو الشخصية الروائية الرئيسة، والوحيدة التي تمتلك ملامح وخصوصيات محددة، ترتسم على مراياها مشاعر المعتقل وحاجاته، من دمعة القهر، إلى الفرح برؤية وجه القمر، فالحرمان من نصفه الآخر. ومع ذلك فليس هو من يصنع الأحداث أو يحركها، بل هو من يخضع لقوى جهنمية تلاحقه، وتقوده نحو الهلاك، وفي كل مرة يعجز عن مقاومتها.

البوعزيزي قلب المعادلة، وسقط النظام في بنغازي، بعد مضي سبع سنوات على اعتقال عامر، ووجد نفسه يتمرد، ويطلب الحرية، ويضرب مع السجناء، ومعهم يهرب من سجنه، ويلتجأ إلى سفارة بلده، التي أعطته بطاقة مرور لمرة واحدة، وجهة واحدة، هي دمشق، وقبل أن يولد نهار فجر جديد، كانت الأصفاد تطوق يديه وقلبه وروحه مرة أخرى، ويُرَحّل مع الصباح الى وزارة الداخلية في ساحة المرجة، ومن ثم يأخذه الطريق مخفوراً، عبر نفق شارع الثورة الى حيث يفتح له فرع الفيحاء بواباته على مصراعيها.

الكتاب «سراب برّي» رواية

قطع متوسط 257 صفحة

المؤلف: عبد الرحمن مطر

الناشر: دار جداول/ بيروت 2015

*المصدر: صحيفة (المستقبل) 12/4/2015

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات