"المذبحة" تحرك تجار المواقف السياسية!
المائة عام الماضية، لم تحمل بين ثناياها هذا الحراك الدولي الضخم ، كما حمله هذا العام وذلك بإضافة دول ومنظمات وجهات لم تكن في السابق تتداول هذه الحادثة التاريخية على الإطلاق، لقد بدا المشهد وكأنه استفزاز وانتقام من تركيا، وخصوصاً من قبل الدول والجهات السياسية الصاعدة حديثاً والمعادية لسياسة تركيا الخارجية، أو تلك التي تحاول الضغط على تركيا في ملفات عديدة كما الاتحاد الأوروبي، والمفاجىء بالأمر إصرار بعض الدول العربية على تلوين المشهد السياسي وصبغه بإشكالية الأرمن، دون إيلاء أي اهتمام لمجازر مازالت ترتكب يومياً في سوريا.
كل ذلك دفع "أورينت نت" للبحث في ماهية هذه الحادثة التي حشدت لأجلها أطراف كثيرة على مبدأ لايتعلق بـ"حب الأرمن وإنما بكره تركيا"، حيث قام النظام السوري الذي لم يجرؤ خلال أعوام سطوته على سوريا ( قبل الثورة ) بذكر أي إدنة أووصف على هذه "المجزرة"، لكنه هذا العام يحاول أن يظهر وكأن قراره مرادف للرأي الدولي أو أن لكلامه أي ثقل سياسي عالمي في هذه القضية، أو ليقول لأردوغان أنه ينتقم!! لكنه بجميع الأحوال قدم مشاركته (في الوقت الضائع) عبر وكالة (سانا) بعنوان : "100 عام على المجازر بحق الأرمن.. حفيد الجزار العثماني مستمر بقتل الشعوب"!!!! حيث شيدت الوكالة حملتها بالتالي " مائة عام مضت على المجزرة بحق الشعب الأرمني التي راح ضحيتها مليون ونصف مليون أرمني على يد سفاحي السلطنة العثمانية في واحدة من أبشع المذابح في تاريخ البشرية جمعاء فيما لا يزال جرح الشعب الأرمني نازفا وأنين ألمه مسموعا في أرجاء العالم لنصرة قضيته الإنسانية العادلة التي بقيت رهن التجاذبات السياسية والقوانين الدولية العاجزة عن إجبار تركيا الوريثة الشرعية للمسؤولين عن تلك المجازر على تقديم اعتذار رسمي على سبيل رد الاعتبار ومنعا لتكرار مأساة انسانية بهذا الحجم".
والحقيقة أن المتابع لأحداث سوريا بشكل عادل، سيقبل هذه المقدمة الصفراء لو أنها أزاحت كلمة الأرمني واستبدلتها بالسوري، كما لو أنها استبدلت أيضاً السلطنة العثمانية بالنظام العلوي، وإذا ماتم استبدال الكلمتين فإن تلك المقدمة تصلح تماماً لشرح الحالة السورية باختصار.
الإعلام المصري بدوره لم يتعفف عن استغلال مجازر الأرمن والمتاجرة الرخيصة بها، من أجل تصفية حسابات مماثلة مع تركيا، التي اتخذت موقفاً حاسماً من أحداث (رابعة)... ولعل أطرف مناشيت صحفي، مصري نقرأه في هذا السياق:
" من أرمن الآسكندرية إلى أردوغان الفاشي: سنلاحقك قضائياً على مجازر الأرمن وتدخلك بالشأن المصري"!!
ما وراء المجزرة
قبل شهرين من الآن، تسلل إيرانيون ومقاتلون شيعة إلى قرى محررة في ريف حلب الشمالي، فقاموا بذبح مدنيين نائمين، قبل أن يحاصرهم الثوار، ويقتلوا 300 منهم (وفق أخر إحصائية صدرت من الناشطين)، ومازال أهالي (نبل) و(الزهراء) اللتين خرج منهما العناصر الشيعية، يتخوفون من مجازر مروعة بحقهم إذا ما اقتحم الثوار هاتين البلدتين، دون الآخذ بأفعالهما في الثورة السورية، وكيف تحولتا إلى مكان لقصف القرى المجاورة وإلى خزان بشري للمقاتلين الشيعية القادمين من كل حدبٍ وصوب، وهو ما ينطبق على (الفوعة) و(كفريا) في إدلب، و(بصرى الشام) في درعا.
والمثال السابق يمكن سرده لفهم بعض أحداث ماجرى بين الأرمن والأتراك، أو بالأحرى لكي نسترشد به عند البحث في حقيقة مايسمى "مجزرة الأرمن" ولإخضاع حادثة تلك الزمن للمنطق ومقاربتها مع أحداثٍ جرت في زماننا هذا.
فالأمثلة " السورية" أقرب إلى ما يدعيه الأتراك، حيث تتلخص روايتهم أنه قبل عام 1915 بعام واحد "بينما كانت جيوش الدول العثمانية تحارب في عدة جبهات، وقف الأرمن إلى جانب الروس وقامو بالتمرد والعصيان، ووصل عدد المتطوعين الأرمن في الجيش الروسي إلى 10 ألاف وفق دراسات، أما دراسات أخرى فأوصلت العدد إلى 100 ألف وغيرها إلى 300 ألف، كلها شاركت في صفوف الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، حيث لم يكتف هؤلاء بتقديم المساعدات للروس للاستيلاء على مدينة "وان" بل قاموا بقتل عشرات الآلاف من المسلمين المدنيين من عرب وأكراد وأتراك...وقدرت بعض الأبحاث عدد القتلى بنصف مليون قتيل مسلم... وتستند جميع المعلومات السابقة إلى وثائق يمتلكها الأتراك حول هذا الإدعاء، مع تأكيدهم على رفض وصف مجازر الأرمن بـالـ“إبادة“، فوفقا لتصريحات المسؤولين الأتراك فإن الأمر يتعلق بـ “مجازر متبادلة” شهدتها السنوات الأخيرة لسلطنة كانت في طور التفتت.
الأسطورة أم الحقيقة!
تنفي السلطات التركية نفيا قاطعا أن تكون السلطنة العثمانية قد أقدمت على تدبير مجزرة منهجية استهدفت الأرمن خلال الحرب العالمية الاولى. وتعترف بمقتل حوالى 500 الف أرمني وقفوا إلى جانب عدوتها روسيا خلال المعارك، أو بسبب المجاعة. أما الأرمن فيتحدثون عن إبادة حوالى 1,5 مليون منهم . لكن مابين الروايتين ثمة حوادث ومجازر راهنة، تدحض الأرقام الأرمنية، سيما أن الشعب السوري يتعرض منذ أربعة أعوام وبشكل يومي، لأعنف أنواع القصف من براميل وصواريخ فراغية والكلور والكيماوي وغير ذلك ، ولم تصل أي منظمة حقوقية دولية إحصائية إلى رقم يتجاوز النصف مليون قتيل سوري على يد قوات الأسد، فكيف يمكن أن يصل العدد إلى مليون ونصف في انعدام الوسائل والاسلحة القتالية كما الآن، هذا عدا عن عامل المدة الزمنية وغيرذلك.
وتبدو الرواية التركية فيها شيء من المنطق في الوفيات التي حصلت بين الأرمن آنذاك، ففي ظل فقر الدولة وأهوال الحرب العالمية ، تم هذا التهجير بطرق بدائية جدا، فماتت أعداد كبيرة من البرد والجوع والمرض إضافة لتعرضهم لهجومات مستمرة من السكان المحليين...يقول إيرول أوغلو مدير مركز دراسة العلاقات التركية الأرمنية بجامعة أتاتورك بمدينة أرضروم لوكالة الأناضول، إن الدولة العثمانية عام 1915 أصدرت قانون "الترحيل والإسكان" ليس لأهداف دينية أو قومية، بل لإبعاد ''العصابات الأرمنية" التي ارتكبت مجازر في حق المسلمين وخاصة النساء والأطفال والمسنين. واتهم الأرمن بمحاولة "خلط الأوراق وتضليل الرأي العام للتغطية على جرائمهم تلك".
وما زال الأرمن يصرون على تحميل الحكومة التركية مسؤولية "الإبادة" التي يزعمون تعرض شعبهم لها عام 1915 ويطالبونها بالاعتراف بذلك ودفع تعويضات عنه، لكن أنقرة تصف ما حدث بأنه "أحداث مؤسفة أودت بحياة أرمن وأتراك مسلمين''.
والخلاصة أن لتركيا روايتها المستندة بالأدلة والوثائق من أرشيف دولة الخلافة العثمانية، والأرمن لهم روايتهم ووثائقهم أنهم تعرضوا لمذابح وإبادة جماعية!
أبرز التصريحات حول "الإبادة" هذا العام!
"نحن مستعدون لدفع الثمن إذا مااثبت مؤرخون مستقلون أنها ارتكبت مجازر الأرمن ابتداء من 1915"، هذا ماقاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مقابلة تلفزيونية أوائل العام الجاري، مكررا رفضه وصفها بأنها "إبادة".
فيما جاءت أبرز التصريحات في الذكرى الـ100 لهذه الحادثة، من قبل بابا الفاتيكان (فرنسيس) الذي وصف ماجرى بـ"الإبادة التي وقعت بحق الأرمن"، ماأشعل غضب أردوغان فقال : "عندما يقوم السياسيون ورجال الدين بما ينبغي على المؤرخين القيام به، تتلاشى الحقائق ويظهر أمامنا ذلك الهذيان الذي نراه اليوم، وأود بهذه المناسبة أن أجدد دعوتي لتشكيل لجنة مشتركة، وأن أؤكّد على شفافيتنا في فتح أرشيفنا بالكامل. ويحضرني أن أوجه إدانتي وتحذيري للبابا، من مغبة تكرار مثل هذه الأخطاء، التي أعتقد أنه لن يقع فيها مجددًا".
أما البيت الأبيض فقد حثّ على اعتراف "كامل وصريح" بمجزرة الأرمن، دون أن تستخدم كلمة"إبادة" التي كان البابا فرانسيس قد استعملها مؤخرا... في وقت تعتزم فيه ألمانيا وصف مذبحة الأرمن بـ " الإبادة الجماعية".
وكان البرلمان الأوروبي صوت في وقت سابق، بأغلبية ساحقة، على قرار غير ملزم حول مذابح الأرمن، حيث وصف ما حدث على يد الدولة العثمانية بحق الأرمن بـ"الابادة الجماعية"، مشيرا إلى "هذه المذابح تعتبر من أكثر الصفحات سواداً في القرن العشرين"، وفق القرار.
التعليقات (22)