انتشرت الصحافة المستقلة والحزبية، التي كانت تمثل وجهات النظر الخاصة و الحزبية لمختلف الاحزاب, في العهود التي كانت سوريا تتمتع فيها بالحكم البرلماني الانتخابي الديمقراطي, وهي الفترة الزمنية بعد الاستقلال من الانتداب الفرنسي 1946 الى عهد الوحدة 1958, في هذا الجو الصحي تعددت الآراء والتوجهات مما سمح للمواطن السوري ان يطلع على اراء مختلفة , وبالطبع حتى الاذاعة الرسمية كانت الى حد كبير موضوعية لم تخضع الى توجه حزبي احادي. وتمتع بذلك الاعلام المسموع والمقروء بمصداقية عالية, رغم ان هذا الوضع تعرض الى بعض الانقطاعات, عندما كان العسكر ينقضون على السلطة في انقلابات متكررة ويمنعون الصحافة او يقيدون حريتها. الامر الذي ادى ان تاثير الإذاعات الخارجية كان محدودا, وأخص بالذكر إذاعة لندن
مع قدوم الوحدة السورية المصرية, التي كان من شروطها إلغاء الأحزاب، ومنع الصحافة أو تقييد حريتها بالحد الأدنى. تعاظم دور الإعلام الخارجي وخصوصا (بي بي سي)، ما اصطلح على تسميته بإذاعة لندن انذاك. واكرر هنا ما عبرت عنه سابقا مع احترامي وتقديري للزعيم الراحل جمال عبد الناصر زعيما قوميا, اجتهد فاخطأ وأصاب ولكنه ولد فقيرا وعاش متقشفا ومات فقيرا.
أصبحت الإذاعات الرسمية في دولتي الوحدة منحازة إلى النظام القائم، ولا تبث إلا ما يعزز وجهة نظره, اذاعة صوت العرب في مصر والاذاعة الرسمية في دمشق حصرا.
وكلما ابتعدت هذه الاذاعات عن الموضوعية والحيادية, كانت جموع الناس تتجه اكثر الى الاذاعات الخارجية للحصول على الاخبار و المعلومات وخصوصا اذاعة لندن التي كانت تمتاز بتنوع برامجها وانتشار مراسليها واسلوبها الشيق والمتميز في اذاعة الخبر, الذي كان من حيث الشكل حياديا وموضوعيا و"صادقا" الى حد كبير.
بعد انقضاض العسكر بغطاء حزب البعث على السلطة في انقلاب 8 آذار 1963, كان من اولى انجازاته ان قضى على كل ما تبقى من صحافة حرة وبطبيعة الحال جميع الاحزاب ما عدا حزب البعث, واصبحت الاذاعة اذاعة دمشق اذاعة حكومية حزبية لا تبث الا ما يؤكد وجهة نظر السلطة بغض النظر عن صحة المعلومات,مع التبجيل والتعظيم الممجوج والممل لاخبار القائد ولمن استقبل وودع....الخ
الأمر الذي جعل السوريين يتعلقون اكثر بالاذاعات الخارجية واهمها اذاعة لندن وحتى اذاعة "اسرائيل" التي كانت تحاول ان تظهر اخراجها بالموضوعية, حتى اصبح نوع من النكتة يتداولها الدمشقيون وبالطبع أهل المدن السورية الأخرى, بات يقول أحدهم للآخر في دمشق: "افتاح على إذاعة لندن مشان نسمع أخبار الشام" رغم أن كلتا الإذاعتين كانتا تدسان السم بالدسم، وخصوصا بما يتعلق بأخبار الاتحاد السوفييتي، الذي كانت مواقفه في ذلك الوقت نسبيا اكثر تضامنا وتفهما لقضايا المنطقة، وبالطبع بالدرجة الأولى التحريض الإقليمي للدول العربية بعضها على بعض!
مع بروز اذاعات اخرى كمونت كارلو والشرق واذاعات اوروبية اخرى ناطقة بالعربية وتعاظم دور الاعلام المرئي لجاذبيته وخاصة الملون منه , تراجع دور اذاعة لندن في التأثير على الرأي العام, رغم ان الكثير من المحطات التلفزيونية الرسمية لم تخرج عن السياسة الاعلامية التي أتبعتها في محطاتها الاذاعية, من الانحياز المطلق للنظام الرسمي واخبار الزعيم القائد وخطبه وانجازاته في بناء الانسان والوطن, و بالطبع التعتيم الكامل على الاخفاقات والفساد والقمع, الذي استشرى واصبح الممارسة والمنهج المعمول بهم.
لعلي في هذه المقدمة قد اسهبت في الحديث عن اذاعة لندن في ذلك الوقت, لكن هذا الاسهاب ضروري لفهم بعض جوانب الواقع الاعلامي الذي نعيشه اليوم.
مع بروز الفضائيات ونتيجة للفراغ الاعلامي الموضوعي والحيادي, للاسباب الانفة الذكر, كان من الهين ان يحتل هذا الفراغ الاعلامي من قبل بعض الفضائيات, التي عملت ان تظهر بغلاف الموضوعية والحيادية وتنوع البرامج ومراسلين في اغلب دول العالم, وبالطبع بوجود تمويل ضخم, لا يمكن الا ان تكون وراءه قوى باجندة تخطط لكامل المنطقة ودولها ضمن سياسة العولمة التي اخترقت الحدود والعقول.
فكانت بعض القنوات الناطقة باللغة العربيةهي القناة التي لبت هذه المتطلبات, مما يجعلني اجزم, بان القائمين عليها قد اشبعوا تجربة الب ب س (اذاعة لندن بالدرجة الاولى واذاعات اخرى ) دراسة وتحليلا, واستخلصوا منها عناصر القوى ليبنوا عليها وعناصر الضعف ليتجنبوها في خدمة توجهات هذه القناة.
وعودة على الحدث السوري, الذي اظهر جليا الدور الذي تلعبه هذه القنوات في تشكيل الرأي العام و تاجيج النعرات الطائفية المذهبية وتخويف الاقليات.
ليكن في البدء واضحا, انه عندما نزل الشباب السوري ومن وراءه جموع السوريين بمختلف اتجاهاتهم وانتمائاتهم الفكرية والدينية والاتنية, الى الشارع منتفضا ثائرا, لم يخرج الا مطالبا بالحرية والكرامة والعدالة ضد الفساد والقمع والتهميش, ايا كان مصدره, لم يخرج لاسباب مذهبية سنية او غير سنية, لم يخرج لاسباب مناطقية اهل الريف ضد اهل المدينة أو بالعكس, أو اثنية عرب ضد كرد أو العكس, لم يخرج حتى لاسباب دينية اسلام ضد مسيحية او العكس.
الدليل على ذلك ان الانتفاضة ونزول الشباب ومن ورائهم غالبية السوريين عمت كل ارجاء الوطن السوري جنوبا وشمالا شرقا وغربا , كما وان الشعارات التي رفعت, واسماء الجمع راعت مختلف المكونات للنسيج الاجتماعي السوري.
لقد خرج الشباب وجموع السوريين من ورائهم لإسباب اجتماعية اقتصادية سياسية. خرجوا من أجل تكافؤ الفرص، وتوزيع عادل للثروة والتنمية المتوازنة والكرامة والحرية، من اجل إسقاط النظام، نظام العصابة الحاكمة، ايا كان وراءه من أي طائفة كان.
ما معنى إذن أن تتحرك القنوات هي وجوقتها ورصيدها وبرامجها واعلامييها في حملة اعلامية منظمة, لتؤجج الصراع المذهبي السني العلوي والسني الشيعي وتخويف الاقليات، مع الإقرار الكامل ان غالبية الطائفة العلوية ( وهو ماعمل وخطط له النظام لسنوات طويلة خلت) هي الحاضن لنظام القمع واداة بيده وضحية له ايضا, لقمع الانتفاضة ووأدها ؟! الامر الذي ستكون نتيجته توغل تدخل الدول التي تدعي حماية الاقليات وبالتالي التقسيم
لا يمكن فهم هذا التحرك الخطيرلهذه القنوات، إلا ضمن مخطط مرسوم لحرف تطلعات الربيع العربي عن اهدافه, خوفا من انتقاله الى الدول الاخرى, الامر الذي لم يكن البتى بذهن الشباب المنتفض الثائر في ايا من دول الربيع العربي.
من يعتقد بان بعض البرامج لهذه القنوات التي تؤجج النعرات الطائفية والمذهبية بشكل فج احيانا, او من بعض المقابلات مع الجولاني مثلا, الذي نصب نفسه حاكما بامر الله والمفتي الاكبر يوزع الفتاوى وبعدها العطايا, مما يعزز ويؤجج الفتن الطائفية ويخيف الاقليات من البعبع السني المزعوم, ويعيدنا الى عصور الظلمات, الامر الذي يصب مباشرة في مصلحة نظام العصابة وشركاءه مدعي الدفاع عن حقوق الاقليات, وهو الذي اخرج المتشددين والتكفيريين من السجون لهذا الغرض بالذات.
كلا والف كلا يا جولاني بهذه العقلية ليس لك ولامثالك مكانا في سوريا المستقبل, بعد تكنيس العصابة المافياوية الحاكمة في دمشق الى مزابل التاريخ, سوريا القوتلي وفارس الخوري وخالد العظم, سوريا التعددية والوسطية والتعايش والتآخي, سوريا الدين لله والوطن للجميع.
اوحتى الكثير من الحوارات التي تحرض على العنف الطائفي.الامر الذي يرضي الكثير من السوريين لاسباب مفهومة ولرغبة لديهم, واحيانا كثيرة انا احدهم, في الانتقام من ظلم وقع علينا من سلطة جائرة قاتلة بيد ادوات غالبيتها العظمى من تابعي المذهب العلوي, مما يذكرنا باسلوب اذاعة لندن التي كانت تبث العشرات من الاخبار والبرامج "الموضوعية" و"الحيادية" الشكل لتمرر بعض الاخبار المدسوسة لاغراض مشبوهة.
فمن يعتقد بأن ما سلف من سلوك هذه الاقنية عبارة عن هفوة او خطأ عابر، فهو واهم ومخطىء، انها ذات السياسة التي كانت تتبعها اذاعة لندن في الزمن الغابر.لذا علينا الحذر ثم الحذر والاحتفاظ برؤوس باردة لنفوت عليهم وعلى امثالهم الفرصة لحرف الثورة الى صراع مذهبي سيكون مؤداه بالتأكيد التقسيم.
كما أعتقد بأن علينا كسوريين أن نولى اهتمامنا للحصول على المعلومات والاخبار والتحاليل لما يجري على ارض الوطن, الى الاعلام الوطني المرئي والمقروء كقناة الاورينت والموقع الاخباري لكلنا شركاء والمواقع الوطنية الاخرى, زمان الوصل وعكس السير على سبيل المثال و ليس الحصر, ونطالب فصائل المعارضة الوطنية الواعية بدعم هذه المحطات والمواقع دعما حقيقيا فعالا والتنسيق معها, كما نطالب القائمين عليه بتوسيع برامجهم ومجالات بثهم وزيادة مراسليهم للوصول الى كافة اماكن تواجد السوريين ما امكن, لتكون هذه القنوات والمواقع اكثر فعالية و البديل الوطني السوري لكل القنوات والمواقع ذات الاغراض المشبوهة
عاشت سوريا موحدة وطنا عادلا حرا لجميع ابناءه
التعليقات (8)