شرعية الديون التي رتبها نظام الأسد ومدى إلزامها للحكومات المقبلة!

شرعية الديون التي رتبها نظام الأسد ومدى إلزامها للحكومات المقبلة!
بعد دخول الثورة السورية عامها الخامس بدأ الكثير من السوريين وفي مقدمتهم الخبراء والمحللين الاقتصاديين يدركون بأن نظام " بشار الأسد" لن يسقط من البوابة الاقتصادية بسبب وجود داعمين حقيقيين له يحولون بكل ما أوتوا من قوة دون انهياره اقتصادياً، إلى جانب حرصهم الشديد على منع سقوطه عسكرياً وسياسياً.

ورغم وجود هذا الدعم الخارجي الهائل للنظام السوري من حلفائه إلا أنه لا أحد يستطيع انكار حالة التهاوي الكبيرة التي مر ولا يزال يمر بها الاقتصاد السوري، حيث بدد النظام كامل احتياطي سوريا من النقد الأجنبي الذي كان يفوق /18/ مليار دولار قبل بداية الثورة عام 2011 ، إضافة إلى عشرات مليارات الدولارات التي تلقاها خلال السنوات الأربع الماضية من حلفائه ( دول ، شركات ، رجال أعمال ، تجار) على شكل هبات أو مساعدات أو قروض لدعم حربه ضد الشعب السوري، وذلك مقابل ضمانات معينة وصل بعضها إلى رهن مباني الدولة وعقاراتها وأملاكها العامة كضمان لتسديد هذه الديون.

لماذا لم يسقط النظام اقتصادياً!

السبب الرئيس الذي حال دون سقوط النظام بعد حالة التدهور غير المسبوقة في الاقتصاد السوري هو تركيبة النظام الأمنية والقمعية التي تتشابه مع الكثير من الأنظمة الدكتاتورية الأخرى. فهذه الأنظمة لا يمكن أن تسقط من خلال فرض بعض العقوبات الاقتصادية عليها أو تدهور عملاتها المحلية لأن من يدفع ثمن هذه العقوبات بالنهاية هي الشعوب وليس الأنظمة ولدينا عشرات الأمثلة على ذلك، كالحصار الاقتصادي الذي فرض على نظام " معمر القذافي" منذ عام 1992 على خلفية تفجير طائرة ( بان أميركان ) المعروفة بقضية لوكربي، والحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق منذ عام 1990على خلفية الاجتياح العراقي للكويت. فلم تستطع هذه العقوبات إلى جانب التدهور الاقتصادي الكبير الذي عانت منه اقتصادات هذه البلدان اسقاط هذه الأنظمة إلا بالتدخل العسكري الدولي كما حصل في العراق عام 2003 وفي ليبيا عام 2011.

ورغم إدراكنا لهذه الحقيقة إلا أننا نعول على عوامل أخرى إلى جانب العامل الاقتصادي لإسقاط نظام " الأسد" خاصة فيما يتعلق بالتغييرات المتسارعة وتغيرات الخارطة العسكرية والأمنية التي حصلت مؤخراً على الأرض في سوريا والتطورات الإقليمية والدولية التي شهدتها المنطقة خلال الأشهر الأخيرة والتي من شأنها أن تسرّع من سقوط هذا النظام المجرم.

لكن السؤال الأهم هو أنه في حال سقوط نظام " الأسد " وتشكيل حكومة وطنية بموجب انتخابات ديمقراطية هل ستكون هذه الحكومة ملزمة من وجهة نظر القانون الدولي بالتركة الكبيرة من الديون التي سيخلّفها النظام الحالي على عاتق الشعب السوري نتيجة نهب ثروات البلاد والديون الدولية التي تراكمت على سوريا خلال السنوات الماضية؟

هذا ما سنحاول الإجابة عنه بشكل مختصر لأن هذا الموضوع يحتاج لعمل كبير على الصعيد الداخلي وعلى صعيد المؤسسات الدولية المعنية بالشأن السوري ومنها بعض المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي ونادي باريس للدول الدائنة.

قواعد معتمدة تنظم توارث ديون الدول!

في القانون الدولي توجد قواعد معتمدة تنظم توارث الدول في حالة الزوال الكلي أو الجزئي للدولة، كاتحاد دولة مع أخرى وتشكيل دولة جديدة أو تفكك دولة مدانة إلى عدة دويلات، لكن لا توجد قواعد قانونية صريحة تنظم بشكل واضح مصير الديون العامة التي ترتّبها الأنظمة الدكتاتورية على شعوبها أو دولها في حال سقوط هذه الأنظمة. وبناء على هذا لا توجد قواعد قانونية تعفي الحكومات الشرعية التي تخلف هذه الأنظمة أو تجبرها على تسديد هذه الديون. الأمر الذي يثير الكثير من التساؤلات من قبيل جواز رفع دعاوى قضائية ضد الدول أو الشركات التي كانت تقدم القروض والمساعدات لدعم هذه الأنظمة في قمع شعوبها كما كان الحال عليه في جنوب أفريقيا، حيث رفعت عدة دعاوى قضائية ضد البنوك التي قدمت قروضاً لنظام الفصل العنصري سابقاً. لكن قبل البدء لا بد من إعطاء لمحة بسيطة عن الديون التي تترتب على الدول من وجهة نظر القانون الدولي كالديون العامة والديون السيادية.

فالديون العامة أو الدين العام: هو مصدر من مصادر الإيرادات العامة، تلجأ الدولة إليه لتمويل نفقاتها العامة عندما تعجز عن توفير إيرادات أخرى، ولا سيما من الضرائب، فتقترض إما من الأفراد أو من هيئات داخلية أو دولية أو من دول أجنبية، وبالتالي فإنَّ الدين العام يشمل ديون الدولة وديون المؤسسات الخاصة من مصارف وشركات تأمين...

أما الدين السيادي: فهو الدين المترتّب على الحكومات ذات السيادة، وهو يتّخذ في معظم الحالات شكل سندات، إما أن تطرحها الدولة بعملتها المحلية، وغالباً ما تكون موجّهة نحو المستثمرين المحليين، أو أن تصدرها بعملة غير عملتها المحلية وعندها تكون موجهة للمستثمرين في الخارج.

الديون البغيضة أو "الكريهة"!

لكن إلى جانب هذين النوعين من الديون هناك نوعاً ثالثاً ربما هو ما يهمنا في هذه المقالة وهو ما يسمى “الديون البغيضة أو الكريهة” " ODIOUS DEBTS “. وقد ظهر مصطلح " الديون الكريهة " لأول مرة في عام 1927 من قبل استاذ القانون الدولي الروسي الأصل “ الكسندر ناحوم ساك" Alexander Nahum Sack ، في كتاب له حول توارث الدول .

حيث عرَّف الديون الكريهة بأنها: " الديون التي تقترضها الانظمة غير الشرعية في سبيل تثبيت حكمها وليس خدمة للشعب، حيث أن هذه الديون تساعد الانظمة الاستبدادية على اضطهاد الشعب والقضاء على مقاومته. وهذه الديون تعتبر ديون كريهة بالنسبة للشعب ولا تعتبر كديون ملزمة له بل هي ديون يكون النظام الدكتاتوري مسؤولاً عنها لوحده وهي ديون يمكن اعتبارها ديون شخصية للدكتاتور نفسه الذي تسبب بها، ولهذا فأنَّ هذه الديون تسقط مع سقوط النظام غير الشرعي" .

ووفقاً لـ "ساك " فإنَّه: ( إذا حصل نظام استبدادي على قرض ولم يكن الهدف منه تلبية حاجات ومصالح الدولة وإنما تقوية هذا النظام الاستبدادي وقمع السكان الذين يحاربون هذا الاستبداد فإنَّ هذا الدين يعتبر كريهاً أو بغيضاً). وبالتالي فهو غير ملزم للدولة، إنما هو محسوب على النظام الدكتاتوري باعتباره ديناً شخصياً وبالتالي فهو يسقط بسقوطه. وحسب " ساك ": يمكن لحكومة شرعية أن تتخلى على التزامات سابقتها الدكتاتورية لأن هذه الديون لا تستوفي واحد من الشروط التي تحدد شرعية الديون في كون أن " المبالغ المقترضة باسم الدولة يجب أن تستخدم في تلبية حاجات ومصالح الدولة".

وهنا يسعى " ساك " إلى تحديد الحالات التي يتحمل فيها الدائنون المسؤولية، فإذا قاموا بمنح قرض مع أنهم يعرفون النوايا الحقيقية للمقترضين فإنهم يرتكبون بذلك "عملاً عدائياً ضد الشعب" ويعرضون أنفسهم لخسارة ما أقرضوه إذا تم خلع هذا النظام المستبد، وسيصبح من الصعب المطالبة بمستحقاتهم. وللتأكيد أكثر على مسؤولية الدائنين، يفضل البعض الحديث عن " القروض الكريهة" بدلاً من "الديون الكريهة" وقد تبنى هذا الطرح العديد من الباحثين المعروفين في القانون الدولي العام أمثال : باتريسيا أدامس، جوزيف هانلون والكنديين جيف كنغ وأشفق خلفان وبريان طوماس.

ووفقاً لهؤلاء فأنَّ الديون الكريهة هي الديون التي تتوفر فيها الشروط الثلاثة الآتية في آن واحد:

1. غياب الموافقة: إذا منح القرض ضد إرادة الشعب.

2. غياب المصلحة العامة: إذا صرفت الأموال على نحو يتعارض ومصالح السكان.

3. معرفة الدائنين بالنوايا السيئة للمقترضين.

وبناء على ما سبق فأنَّه لا يمكننا الحديث عن دين " كريه " إذا لم يتم استيفاء أحد هذه المعايير، ومن ثم فالديون التي استخدمت من طرف طاغية لبناء المستشفيات والمبالغ التي تم اختلاسها في ظل نظام ديمقراطي لا تسمى " ديون كريهة". وإنما نتحدث هنا عن مدى شرعية هذه الديون ولا ندرجها ضمن " الديون الكريهة". وإذا كان الدين يدخل ضمن الديون الكريهة فإنَّ هذا الدين باطل ولا يمكن أن نطالب باسترجاعه بعد سقوط النظام المستفيد منه.

كما أشارت الباحثة البريطانية " Patricia Adams " في كتابها "الديون الكريهة" إلى ضرورة توافر بعض الشروط حتى تصنف الديون التي يقترضها نظام ما على أنها " ديون كريهة" أهمها:

1. أن يكون الهدف من هذه القروض أو الديون هو الاثراء الشخصي.

2. استعمالها لغرض اضطهاد الشعب.

3. شن حروب عدوانية ضد دول أخرى.

4. تقوية المؤسسات الدكتاتورية.

5. استثمارها لصالح فئة معينة من الشعب دون الفئات الأخرى لأسباب سياسية وكأداة للتميز بين أفراد الشعب.

والجدير بالذكر أن مبدأ الديون الكريهة لم يتوقف على كونه مبدأ نظرياً بل تم تطويره ودعمه باستمرار منذ ذلك الوقت من خلال قرارات وسوابق واجتهادات المحاكم وآراء الفقهاء القانونيين وممارسات الدول في هذا المجال، وهي تعتبر من مصادر القانون الدولي حسب المادة الثامنة والثلاثون من نظام محكمة العدل الدولية الملحق بميثاق الأمم المتحدة ويعتبر جزءاً لا يتجزأ منه.

ووفقاً للرأي السائد في القانون الدولي يمكن اعتبار ديون ما " ديوناً كريهة " إذا تحققت فيها ثلاثة شروط وهي:

1. نظام الحكم في الدولة في وقت الاقتراض كان نظاماً غير شرعياً أو الجهة المتعاقدة على القرض لم تكن أصلاً مخولة حسب قانون الدولة المقترضة.

2. الديون تمت انفاقها لأغراض لا تخدم مصلحة الشعب.

3. الجهة المانحة للقرض كانت على علم بالطبيعة غير الشرعية للنظام الحاكم وأن الديون تستخدم لأغراض ضد مصلحة الشعب أو كانت بوسعها أن تحقق في ذلك.

ومبدأ الديون الكريهة قريب جداً من مبدأ مماثل في الأنظمة القانونية المدنية حيث لا يمكن إلزام الفرد بدفع ديون اقترضها شخص آخر باسمه ولكن بدون تخويل منه. والتخويل في القانون المدني يكون مرادفه على مستوى الدولة انتخابات حرة ونزيهة في الأنظمة الديمقراطية لتحديد من يحكم باسم الشعب.

ولهذا فأن مسؤولية الديون الكريهة تقع على عاتق الجهات المانحة لهذه الديون والتي كانت على علم بطبيعة النظام غير الشرعي وبحقيقة أنَّ هذه الديون لا تستعمل لخدمة مصالح الشعب. لذا فأنه بعد سقوط النظام سوف لا يكون النظام الجديد ملزماً بتسديد ديون النظام السابق.

وهذا المبدأ يمكن تطبيقه بصورة كاملة على الحالة السورية حيث أنَّ الدول التي منحت قروضاً لنظام "بشار الأسد" (روسيا، إيران، الصين) ستكون هي المسؤولة الوحيدة عن هذه الديون وليس الشعب السوري أو الحكومة المقبلة لأن هذه الدول كانت على علم مسبق بالطبيعة الفاسدة وغير الشرعية والقمعية لنظام "الأسد".

سوابق في القانون الدولي!

وهناك الكثير من السوابق في القانون الدولي في هذا المجال تؤكد ما ذهبنا إليه، حيث اعتبرت العديد من هيئات التحكيم الدولية عدم شرعية ديون أنظمة دكتاتورية منهارة أو رفضت أنظمة جديدة تسديد ديون النظام السابق باعتباره كان نظاماً دكتاتورياً معادياً لمصالح الشعب، ولهذا فأنَّ ديون هذا النظام ليست إلا ديون كريهة. من أمثلة هذه السوابق في القانون الدولي:

1.

قضية الاتحاد السوفيتي: بعد الثورة الاشتراكية في روسيا وتأسيس الاتحاد السوفيتي أصدرت الحكومة السوفيتية قراراً عام 1918 بشطب كل ديون روسيا القيصرية بحجة أن هذه الديون كانت ديوناً شخصية لقيصر روسيا المخلوع ولذا فهي غير ملزمة للاتحاد السوفيتي.

2.

القضية الاسبانية-الأمريكية: في الحرب الإسبانية-الأمريكية سنة 1898 طردت أمريكا إسبانيا من كوبا واحتلت كوبا بنفسها، ثم طالبت إسبانيا بعدئذ بتسديد ديون كوبا التي اقترضتها اسبانيا باسم كوبا ورفضت الحكومة الأمريكية آنذاك هذا الطلب بحجة أن هذه الديون هي غير أخلاقية لأنها تمت بدون موافقة الشعب الكوبي وأن الديون استعملت لسحق كفاح الشعب الكوبي ضد الاستعمار، وبأن هذه الحقائق كانت معروفة للجهات المانحة لذا يجب عليها تحمل العواقب.

3.

قضية كوستاريكا: فقد اقترض دكتاتور كوستاريكا الأسبق " فدريكو تينوكو" ديناً من بنك كندي بلغ عدة ملايين من الدولارات استعمله لأغراض شخصية، وبعد سقوط نظامه سنة 1923 رفضت الحكومة الجديدة تسديد هذه الديون للبنك الكندي واحيلت القضية إلى تحكيم دولي، وقرر قاضي التحكيم بأنَّ حكومة " كوستاريكا " غير ملزمة بدفع ديون الحكومة السابقة لأنَّ ديون الدول يجب أن تنفق من أجل المصلحة العامة وليس لأغراض شخصية وأن البنك الكندي كان على علم بحقيقة أنَّ هذا القرض سينفق لأغراض شخصية من قبل الحاكم السابق.

4.

قضية ديون النظام الرواندي السابق: فقد اعترف مجلس العموم البريطاني سنة 1998 بعدم شرعية ديون نظام رواندا السابق بحجة أنه هو المسؤول عن جريمة الإبادة الجماعية وانفقت هذه الديون على شراء الأسلحة لاستعمالها ضد الشعب، ولهذا فأنَّ الحكومة الجديدة غير ملزمة بتسديد هذه الديون.

5.

في عام 2000 أصدرت المحكمة الفدرالية في الأرجنتين قراراً وصفت فيه الديون المقترضة من طرف النظام الدكتاتوري في الفترة ما بين 1976 و1983 ديوناً غير شرعية وبالتالي فهي غير ملزمة لحكومة الأرجنتين.

وبناء على ما سبق يمكن القول إن إجبار الشعوب على تسديد ديون الأنظمة الدكتاتورية هو عمل منافٍ للعرف ومبادئ الأخلاق الدولية والمبادئ العامة للقانون لأنه بمثابة إثراء غير شرعي من قبل الجهات المانحة على حساب هذه الشعوب التي لم تكن هي الجهة المستفيدة من هذه الديون التي تجبر على تسديدها، وبذلك تصبح هذه الشعوب مصدراً للربح المادي غير المشروع لصالح الدول المانحة المتعاونة مع الأنظمة القمعية غير الشرعية الفاسدة.

والأهم من ذلك يرى أبرز فقهاء القانون الدولي " Daniel Patrick O'Connell " أنَّ القروض التي تمنح لأنظمة غير شرعية تخوض حرباً عدوانية ضد دولة أخرى أو ضد شعبها - كما هو الحال اليوم مع النظام السوري - تعتبر بمثابة دخول في الحرب إلى جانب النظام، ولهذا تتخذ هذه الديون شكل مساهمات حربية. وبناء على ذلك يمكن للحكومة السورية المقبلة أن تقاضي الدول التي قدمت قروضاً لنظام " الأسد " وعلى رأسها إيران وروسيا كشركاء في الحرب على الشعب السوري وبالتالي مطالبتها بالتعويضات عن الأضرار التي لحقت به على الصعيد المادي أو المعنوي وليس فقط اسقاط القروض التي قدمتها هذه الدول لنظام " بشار الأسد “. كما أنَّه ليس من المعقول اجبار ضحايا إرهاب الأنظمة الدكتاتورية دفع ثمن تكاليف الآلات والوسائل التي استعملت لتعذيبهم وقمعهم وقتلهم. في هذه الحالات يمكن ملاحقة الدول المانحة قضائياً بسبب مساهمتها في جرائم النظام هذه، كما كان الحال عليه في جنوب أفريقيا حيث رفعت دعاوى قضائية ضد البنوك التي منحت قروضاً لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا سابقاً.

الخلاصة، هي أنَّ الدول التي تمنح قروضاً للأنظمة غير الشرعية تتحمل وحدها عواقب هذه العملية وتجازف بأموالها لأنها كانت على علم مسبق بعدم تخويل الشعب لهذه الأنظمة للتعاقد بالاقتراض باسمه وأن عقوداً من هذا النوع هي باطلة من الناحية القانونية حسب مبدأ تجاوز الصلاحيات المعروف في القانون الدولي بمبدأ " Ultra Vires " أي تجاوز حدود السلطة.

هل تتوفر الشروط القانونية لإسقاط شرعية القروض التي اقترضها نظام الأسد؟

لا أحد يعرف لحد الآن كم هي ديون النظام السوري بالضبط لعدم وجود سجلات مضبوطة حول هذه الديون خاصة بعد انطلاق الثورة السورية لأن النظام بات على يقين بطبيعته المؤقتة واتجاهه للسقوط لذلك لم يعد مستقبل سوريا وشعبها يعني شيئاً بالنسبة له. ولهذا فأنَّ تقييم شرعية ديون النظام السوري يمكن أن يتم على ضوء الأسئلة التالية:

1. هل نظام الأسد نظاماً شرعياً؟

النظام الشرعي حسب القانون الدولي كما جاء في المادة 21 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان والمادة 25 من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية يكون نظاماً يتداول فيه الحكم عن طريق انتخابات دورية وحرة ونزيهة. ولعله كان من المعلوم للجميع وخاصة للدول المانحة التي تتعامل عن قرب مع النظام بأنه كان ولا يزال نظاماً دكتاتورياً استولى على السلطة عن طريق القوة سنة 1970 تحت قيادة حزب البعث، ولهذا فأن الشرط الأول لاعتبار ديون نظام " بشار الأسد " ديونا كريهة غير ملزمة لسوريا المستقبل هو متوفر.

2. هل استفاد الشعب السوري من قروض النظام أم تضرر؟

إنَّ القروض تمنح عادةً من خلال معاهدة دولية تحدد أيضاً الغرض النهائي لهذه القروض وكذلك يمكن التحقق من استخدام هذه القروض من الناحية العملية للتأكد من عدم سوء استخدامها واختبار مدى استفادة الشعب من هذه القروض. وفي الحالة السورية فأنَّ الممارسات القمعية للنظام السوري منذ سنة 1970 وحتى الآن ضد الشعب السوري معلومة للجميع من خلال وسائل الإعلام وتقارير منظمات حقوق الانسان، ولهذا فأنَّ أي دعم مالي للنظام السوري حتى لو كان على شكل قروض سيؤدي حتماً إلى تقوية المؤسسات الدكتاتورية القمعية لهذا النظام ويساهم مباشرة في زيادة الأعمال القمعية هذه ضد المواطنين كبناء المزيد من السجون ومعسكرات الاعتقال وشراء آلات ووسائل التعذيب. ولهذا فأن الشرط الثاني لاعتبار ديون نظام " بشار الأسد " ديونا كريهة غير ملزمة للحكومات المقبلة هو متوفر أيضاً.

3. هل كانت الدول المانحة للقروض على علم بالطبيعة الدكتاتورية والقمعية للنظام والأغراض النهائية لهذه القروض؟

لم يكن بالعسير على الدول المانحة أو أية دولة أخرى التعرف على الطبيعة الدكتاتورية للنظام السوري، إذ كان النظام قد استولى على الحكم خلال انقلاب عسكري سنة 1970 علناً، ومنذ ذلك الحين والنظام يمارس إرهاب الدولة بصورة واسعة والآلاف من السوريين قضوا في السجون ( صيدنايا وتدمر وسجن المزة العسكري) ووسائل الإعلام كانت مليئة بأخبار القمع والاضطهاد والتعذيب في سوريا. ولهذا كانت الدول المانحة باستطاعتها الكشف بسهولة عن حقيقة بأن القروض الممنوحة لهذا النظام كانت تستخدم بصورة مباشرة أو غير مباشرة لقمع المواطنين السوريين وتمويل المجموعات الإرهابية التي يديرها النظام في دول الجوار ( لبنان، العراق). ولهذا فأنَّ الشرط الثالث هو متوفر أيضاً. لذا فإن أي حكومة سورية شرعية مقبلة غير ملزمة بتسديد ديون هذا النظام الدكتاتوري باعتبار هذه الديون ديون كريهة حسب القانون الدولي.

4. هل كانت الديون العسكرية الممنوحة للنظام السوري بمثابة مساهمة من قبل الدول المانحة في حرب النظام ضد الشعب السوري؟

أغلب ديون النظام السوري تراكمت خلال السنوات 1980-1989 وخلال الفترة من 2011 وحتى الآن وهي سنوات العمليات العسكرية ضد الشعب السوري في الثمانينيات ودعمه للنظام الإيراني خلال حربه ضد العراق، إضافة إلى الحرب على الشعب السوري منذ 15 آذار 2011 وحتى الآن. ومنح الديون لنظام يخوض حرباً عسكرية ضد شعبه يشكل خرقاً للقانون الدولي ولا يمكن اعتبارها إلا مساهمة في هذه الحرب وليس قرضاً بمفهوم القانون الدولي لأنها كانت منح حربية على شكل أسلحة وعتاد ومؤن لصالح النظام، والحكومة السورية القادمة غيرة ملزمة بتسديدها.

وعليه فالديون العسكرية تشكل القسم الأكبر من ديون النظام خاصة ديون إيران وروسيا والصين وقسم منها كان وما يزال يستخدم في صناعة أسلحة دمار شامل كالبراميل المتفجرة وتطوير السلاح الكيماوي.

5. هل استخدمت هذه الديون لأغراض شخصية من قبل النظام وبعلم من الدول المانحة؟

أرصدة أعضاء النظام وعلى رأسهم " بشار الأسد " وأفراد عائلته لا يمكن تحديدها بصورة نهائية لكن تقدر ببلايين الدولارات تراكمت في حساباتهم الشخصية في البنوك المحلية والعالمية. لكن من السهل على الدول المانحة التي لها أجهزتها الأمنية القوية والمؤسسات المالية المتطورة الكشف عن التحركات المالية لصالح أركان النظام إذ أنه من الصعب جداً تحويل المليارات من الدولارات إلى حسابات شخصية بدون علم الدول المانحة أو حتى بدون موافقتها. فالدول الصناعية غالباً ما تغمض العين اتجاه سرقة أموال دول العالم الثالث من قبل أنظمته الدكتاتورية وحكامه غير الشرعيين بل وتقدم لهم المساعدة من خلال فتح حسابات شخصية سرية لهم في بنوكها. ولهذا فأنَّ الدول التي تعاملت مع النظام السوري مالياً ومنحته قروضاً لا بد أن تكون على علم مسبق بأنَّ القروض هذه تستخدم أيضاً لأغراض شخصية من قبل هذا النظام. هذه الديون لا يستطيع الشعب السوري أن يكون مسؤولاً عنها لأن مسؤولية من هذا النوع ستكون منافية للقانون الدولي ومبادئ العدالة كما جاء في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة لأنَّ الشعب لا يمكن الطلب منه تسديد قرض لم يستفيد منه هو ولم يخول أحداً للتعاقد باسمه لاقتراضه. وأن قرار هيئة التحكيم في قضية " كوستا ريكا " كسابقة في القانون الدولي كما تم ذكره أعلاه ينطبق كاملاً على الحالة السورية.

6. هل يحق لسوريا المطالبة بتعويضات من الدول المانحة بسبب مساهماتها المالية على شكل قروض في قمع الشعب السوري؟

من المعلوم بأنَّ الأنظمة القانونية كافة تمنح المتضرر من فعل غير قانوني ما الحق في المطالبة بتعويض عادل أمام القضاء، وهذا المبدأ هو أيضاً من المبادئ القانونية العامة كمصدر للقانون الدولي ويحق للشعب السوري الاستناد إليه لرفع دعاوى قضائية أمام المحاكم السورية مستقبلاً ومحاكم الدول المانحة لقروض النظام ومطالبتها بتعويضات عادلة عن الأضرار التي لحقت به من خلال هذه القروض التي استعملت لقمعه. هذه الدعاوى يمكن أن تكون فردية أو جماعية وهناك سابقة " جنوب أفريقيا " حيث رفعت دعاوى قضائية بعد الإطاحة بنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ضد البنوك التي منحت قروضاً لنظام جنوب أفريقيا السابق.

7. هل يحق للحكومة الشرعية السورية المقبلة الامتناع عن تسديد ديون النظام الحالي لبشار الأسد؟

الحكومة السورية المقبلة التي ستشكل بموجب الانتخابات ستكون حكومة شرعية تنبثق عن عملية ديمقراطية بشرط أن تكون الانتخابات حرة ونزيهة، ولهذا فأنه لا بد لها أن تمثل مصالح الشعب السوري في كافة المجالات، ومنها المجال المتعلق بديون النظام الحالي حيث يحق للحكومة المقبلة اصدار قرار بشطب كل ديون النظام الحالي من جانب واحد باعتبارها ديوناً سياسية وعسكرية استعملت لأغراض شخصية وشن حرب لقمع الشعب، كما قامت به الحكومة السوفييتية بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية حيث شطبت سنة 1918 كل ديون روسيا القيصرية من جانب واحد. خاصة وأن سوريا ستكون بأمس الحاجة إلى مواردها الذاتية لتعمير البنية التحتية التي دمرتها حرب النظام ضد الشعب والتي تقدر تكاليفها بحوالي 500 مليار دولار.

أخيراً:

يمكن أن نقول بأنَّ الحكومة السورية المقبلة التي ستشكل بعد الإطاحة بنظام " بشار الأسد " يمكن أن تعتمد بالكامل على القواعد والمبادئ المعتمدة في القانون الدولي لإعلان ديون النظام الحالي " ديوناً كريهة" حسب هذه القواعد وبذلك تكون غير ملزمة للنظام الجديد، وكذلك يحق لها المطالبة بتشكيل هيئة تحكيم دولية تنظر في كل حالة قرض على حده للتحقيق حول محتوى هذا القرض والغرض من التعاقد عليه وكيفية الاستفادة منه من الناحية العملية.

كما أنَّ الحكومة السورية المقبلة ستستطيع أن يثبت في أي وقت بأن نظام " بشار الأسد" وقبله والده كان نظاماً قمعياً غير شرعياً يمارس إرهاب الدولة ضد شعبه بأبشع صوره، وأن قصف الغوطة الشرقية بالأسلحة الكيميائية وتدمير البنى التحتية في كافة المدن وارتكاب المئات من الجرائم الأخرى كجرائم الحرب والإبادة الجماعية باعتراف جميع المنظمات الدولية خير دليل على ذلك، وأنَّ الشعب السوري لم يكن الجهة المستفيدة من هذه القروض بل الجهة المتضررة ويمكن الاستفادة من هذه الحقائق لتفنيد مطالب الدول المانحة.

وكذلك يحق للحكومة السورية المقبلة اعتبار فوائد الديون الأخرى التي اقترضها النظام قبل عام 2011 وتراكمت فوائدها بعد هذه الفترة " ديوناً اجبارية" بسبب الحرب إذ لم يكن بوسع النظام تسديد ديونه، كما أنَّه فاقداً للسيادة بصورة كاملة بسبب وقوعه تحت الاحتلال والتأثير المباشر لنظام ملالي طهران عليه لذلك فأنَّ فرض الفوائد على ديون النظام في هذه الفترة لا أساس قانوني له.

ولتحقيق ما سبق يتوجب على خبراء الاقتصاد والقانون الدولي إعداد ملفات متكاملة عن كافة القروض التي اقترضها نظام " بشار الأسد " وحركتها وطرق صرفها وتدعيم ذلك بالوثائق القانونية التي تثبت ما ذهبنا إليه أعلاه إنصافاً لحقوق الضحايا والشهداء الذين سقطوا بأموال هذه القروض لتحصل عوائلهم على التعويضات العادلة التي تتناسب مع حجم التضحيات التي قدموها لتحقيق مطالب الشعب السوري في الحرية والكرامة.

هوامش:

1 - ناحوم الكسندر ساك، هو وزير روسي سابق في عهد نيكولا الثاني وأستاذ القانون الدولي في أحد جامعات باريس.

2 - من المعلوم بأن كل حكومة لم تستلم الحكم من خلال عملية ديمقراطية أي انتخابات حرة ونزيهة لا يكمن أن تعتبر شرعية كما جاء في المادة الحادية والعشرون للإعلان العالمي لحقوق الانسان والمادة الخامسة والعشرون للعهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية الملحق به.

3 - كمال سيد قادر، ديون العراق والقانون الدولي: العراق غير ملزم بديون النظام السابق، الحوار المتمدن، العدد: 1050 تاريخ 17 كانون أول/ديسمبر 2004.

4 - صحيح بأن مبدأ الديون الكريهة بقي كأحد مبادئ القانون الدولي يفتقر إلى آلية تنفيذ دولية كما يذكره الباحث الألماني Jürgen Kaiser من مؤسسة Friedrich-Ebert-Stíftung ولكن يمكن أن نظيف إلى هذا الرأي بأن هذا المبدأ هو ليس المبدأ الوحيد من هذا النوع إذ أن مبدأ حق تقرير المصير الذي هو من المبادئ الاساسية للقانون الدولي يفتقر إلى آلية من هذا النوع أيضاً وأن الشعوب هي التي يجب أن تكافح من أجله والقانون الدولي يمنحه الشرعية فقط.

5 - Robert Howse, THE CONCEPT OF ODIOUS DEBT IN PUBLIC INTERNATIONAL LAW, UNCTAD DISCUSSION PAPERS, United nations Conference on Trade and Development, United Nations publications, No. 185,July 2007.

التعليقات (6)

    خنفور المتيس

    ·منذ 8 سنوات 10 أشهر
    كل ما ذكر في هذا المقال يصح على حالات دول بعينها دون غيرها.. و بالتالي لا يوجد قانون ثابت في الموضوع..فصدام حسين كان ديكتاتوراً و استخدم ديون العراق في تمويل حرب غير شرعية على الكويت و لم تسقط ديون العراق و مات صدام و لازال الشعب العراقي يدفع ديون صدام إلى اليوم

    أبو مصطفى

    ·منذ 8 سنوات 10 أشهر
    الشعب السوري غير ملزم بأي اتفاقية وقعها نظام البعث منذ نشاته و حتى الآن سواء كانت اتفاقية اقتصادية أم عسكرية أم سياسية و الجميع في العالم يعرف ان نظام البعث نظام غير شرعي حكم الشعب السوري بدعم من الغرب وروسيا و ايران و اسرائيل و بالتالي مقابل تحقيق مصالحهم الاقتصادية و السياسية و العسكرية في سوريا و بالتالي جميع من عقد اتفاقيات مع نظام الاسد ملزم بدفع تعويضات للشعب السوري على دعمه لهذا النظام المجرم هذا بالاضافة لبطلان جميع الاتفاقيات التي قام بها نظام البعث مع من وقف معه من دول في جميع المجالات

    جبهة النصره

    ·منذ 8 سنوات 10 أشهر
    ابقى خلي المنظومة الشيوعية ودولة فقيه المتعه يحصل حتى يحصل بعد ما نخلص من بشار الحرامي واعوانه .

    Hassan

    ·منذ 8 سنوات 10 أشهر
    أنا ما لي قانوني بس ديون روسيا و الصين عليهم مراجعه الفيتو يللي استعملوه عدة مرات لمنع ادانته بالإبادة الجماعية و عليهم تعويض الشعب السوري عما ساهموا به ديون ايران عليهم إثبات كيف تصرف الأسد بهذه الديون بسبب علاقه ايران العضوية مع النظام الشعب السوري و كسابقه جديده اقترح تنظيم استفتاء شعبي او برلماني بقبول هذه الديوناو رفضها بعد إيضاح أرقامها و كشف استعمالها و أين صرفت الشعب السوري لن يتسامح مع من ساهم بقتله

    عمر و قيقي

    ·منذ 8 سنوات 10 أشهر
    طبعا مقال هام جدا ويفتح موضوع جديد وهو موضوع استيلاء حزب البعث الخنزير قبل خمسين عاما على اراضي الناس باسم اصلاح زراعي وكذلك جميع الاستملاكات على عقارات الناس في سوريا. علما بان لم يتم تعويض اصحاب العقارات وسرقها حزب البعث وطوب بعضها للفلاحين وخلق الكراهيه بين الناس. لذلك على حرامية الدوله القادمه تعويض اصحاب العقارات من جيوب كلاب البعث ومصادرة املاكهم وتوزيعها لمن خسرو اراضيهم بالاصلاح والاستملاك.

    Gökdağlı

    ·منذ 8 سنوات 8 أشهر
    النظام البعثي الأسدي لم يستعمل فقط القروض لغاياته في السرقة ودعم الإرهاب، وقمع الشعب السوري. بل تعدى ذلك إلى سرقة الكثير من الناتج المحلّي، وخاصة النفط الذي لم يدخل منه قرشٌ واحد إلى خزائن الدولة منذ اكتشافه حتى هذا اليوم. حتى عرق جبين الشعب سرق. ولا يوجد بيت سوري يخلو مغترب واحد على الأقل، سواء هرباً من إرهاب النظام، أو سواء لإعالة عائلته مادّياً، بسبب سرقة النظام للثروات، وتخصيص معظم الوظائف للأقلية الداعمة له وخاصة الطائفة النصيرية.
6

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات