الدراما السورية تفضح ما تتكتم عليه السياسة!

الدراما السورية تفضح ما تتكتم عليه السياسة!
على مدى أكثر من ثماني أعوام، اعتاد السوريون أن ينتظروا أن يفتح (باب الحارة)، الذي كان يفتح في كلّ عام، ليكتشف المتلقي أنه أضاع جزءاً من هويته، فالحارة مرتع للجواسيس والخونة، نساؤها لا يعنيهن من هذه الحياة سوى القيل والقال، أما "قبضاياتها" فهم رجال يمتلكون العضلات ولا يملكون شيئاً من العقل..

مع كلّ هذا، ينتظر غالبية السوريين المسلسل، ربما بحثاً عن شيء من ملامح البلد الضائعة، وطقوسها التي غابت منذ بدايات الثورة، فالطقوس الرمضانية اختلفت بفعل ضغوطات المعيشة ونزوح الناس، وملامح العيد غابت في ظل القهر الذي يعنيه الناس، أما العائلة فقد تشتت في بلاد الله الواسعة..

ملامح الماضي فقط!

غير أنّ الكارثة تكمن في أنّ (باب الحارة) ومثله بقية أعمال ما يدعى بالبيئة الشامية، هي الوحيدة التي تحمل شيئاً من "ملامح سوريا" التي اعتاد المتفرّج أن يشاهدها، حيث أن الممثلين هم ممن اعتاد الناس على أن مشاهدتهم وهم يجسدون الشخصية الدمشقية، ومواقع التصوير هي ذاتها التي ألفها الناس، فيما تغيب ملامح سوريا عن الأعمال التي تلامس الهم السوري المعاصر بشكل حقيقي، بسبب انتقاء بعض الممثلين غير السوريين، وبسبب مواقع التصوير التي تقع خارج سوريا.

تتلاشى ملامح سوريا شيئاً فشيئاً من الدراما السورية، لتعكس حالة التشرذم والتشظي التي يعيشها الإنسان السوري، حتى باتت ملامح البلد في الواقع، مختلفة عن الملامح التي عرفناها، فشوارعها تعجّ بأكوام الحجارة، والحواجز الإسمنتية التي تقطع الطرقات، كما تقطع التواصل؛ في مدينة حلب على سبيل المثال، هنالك حارتان لا يفصلهما سوى شارع، بستان القصر وحي المشارقة، غير أن عبور هذا الشارع قد يستغرق إثنا عشرة ساعة، من الانتظار على الحاجز، لتجاوز "معبر الموت" كما اعتاد ناشطو حلب تسميته، نتيجة حالات الوفاة بسبب الاستهداف من قبل قناصة النظام، المتواجدين على سطح "القصر البلدي".

تأتي الدراما لتجهز على ما تركه النظام، فالأعمال السورية المصوّرة في داخل البلد، تبحث كلّ السبل الكفيلة بتكريس القطيعة بين أطراف المجتمع السوري، إذ أنّ النساء اللواتي انضممن إلى صفوف المعارضة، هن إما من الساذجات اللواتي وصلن إلى اتخاذ هذا الموقف بسبب تبعيتهن للذكور في بيئاتهن، أو لمكاسب غبية قدمتها لهن المعارضة "اللاوطنية"، أو أنّهن من المتسلّقات اللواتي اتخذن هذا المنحى بسبب مكاسب قدّمها لهن الطرف الآخر، حين يجري الحديث عن النساء المثقفات اللواتي التحقن بصفوف المعارضة، الأمر الذي يلغي أيّ وسيلة للتواصل الإنساني؛ حين يجري الاستخفاف بالمواقف السياسية، وتسطيحها بهذه الطريقة، لا يظلّ هنالك مجال لتقبلها كوجهة نظر، ويتجاوز الموضوع قضية الخلاف السياسي إلى محاولة لإلغاء الرّأي الآخر، وهو ما درج عليه النظام السوري، ومثله كلّ الأنظمة الشمولية في العالم.

تلاحظ هذه الظاهرة في الأعمال الدرامية خلال العامين المنصرمين، حيث تغاضى مقص الرقيب عن الضوابط الأخلاقية، خاصة وأن التلفزيون السوري كان يقدّم نفسه على أنه "تلفزيون الأسرة"، إلا أنه تحول إلى "تلفزيون الأسرة +18"، ليضمن متابعة أعماله المتردّية، التي ينتجها "شبيحة الوسط الفني" أو ليسوّق إنتاج شركات الإنتاج التلفزيوني، التي يملكها رجال أعمال مقرّبين جداً من السلطة، كما جرت العادة.

لا يغيب عن ذهن المتلقي، أن الرقيب بات مضطراً للترويج للإنتاج اتلفزيوني بهذه الطريقة الفجة، في ظلّ تغييب أهم ممثلي وكتاب ومخرجي الدراما السورية، ممن ارتقوا بالدراما السورية، بسبب مواقفهم السياسية، ولذلك كان لابدّ من إيجاد حل بديل يضمن تسويق هذه الأعمال، وبهذا تغيب ملامح الأسرة السورية عن الدراما التي أنتجت في سوريا، لتظهر أعمال صورت داخل الأراضي السورية، ولكنها لا تحمل شيئاً من ملامح البلد.

دراما لا تحمل شيئا من ملامح البلد!

الأعمال التي صوّرت خارج سوريا لها شأن آخر، فهي وإن كانت قد تناولت الهمّ السوري، ومشكلات البلد الحقيقية، وما يجري فيه من قتل وتنكيل واعتقال، لكنها هي الأخرى لم تحمل شيئاً من ملامح البلد، فمن ناحية نجد أنّه من الصعوبة بمكان إيجاد ديكورات تتمكّن من مقاربة المواقع السورية الحقيقية، فضلاً عن التسويق الضعيف لها، ما يعني انتاجاً متواضعاً غير قادر على دخول سوق المنافسة عربياً، وبالتالي عدم إيصال الرسالة المرجوّة، وإذا أضفنا لهذه المسألة أن معظم ممثلي ومخرجي وحتى كتاب هذه الأعمال، يعيشون خارج البلد منذ 3 سنوات على الأقل، يتّضح أن هذه الأعمال قاصرة عن مقاربة الواقع الذي يعيشه المواطن السوري اليوم، فاليوم الواحد في سوريا يعادل 100 سنة ضوئية خارجها.

المرأة هي الخاسر الأكبر!

ولأن النظام بدأ بترويج أكاذيب من قبيل "جهاد النكاح"، فقد كان الخاسر الأكبر هو المرأة السورية في هذه الصراع الذي انتقل إلى الدراما، حيث تضيع ملامح هذه المرأة، التي كانت فيما مضى تكرّس في الأعمال التلفزيونية على أنها مناضلة أو سيدة قادرة على صنع المستحيلات لإنقاذ عائلتها، أو أنها فتاة طموحة تحاول استكمال دراستها، أو التصدي لمصاعب الحياة للحفاظ على سمعتها؛ تلك الصورة الإيجابية التي كانت تنتقى أكثر الفنانات السوريات جماهيرية لتجسيدها، اليوم يصب المخرجون جلّ اهتمامهم على تقديم هؤلاء الممثلات بالصورة الأكثر سلبية، وإعطائهن أدواراً تمثيلية صادمة لقيم المجتمع التي تربّى عليها المجتمع السوري، خاصة إذا كانت هنالك إشارة بشكل أو بآخر إلى أن هذه المرأة تقف ضدّ النظام، فهي بالضرورة عاهرة أو متسلقة أو ساذجة، ووصلت الأمور بـبعض"كتاب الدراما" أن يظهروها وهي ابنة المجتمع المحافظ على أنها "شاذة جنسياً " كما في مسلسل "نساء من هذا الزمان" الذي عرض في الموسم الرمضاني الماضي،غير أّن ما هو أكثر إثارة للسخرية، هو أن تكون الكاتبة سيدة وتستخدم هذا "العنف الجندري" ضدّ امرأة مثلها، لترضي القائمين على ثكنة التلفزيون وأجهزة الرقابة فيه!

بعد هذا كلّه، يأتي (باب الحارة) ليجهز على تاريخ هذه المرأة، بتصويرها على أنها ساذجة، خاضعة لسلطة الذكور الاستبدادية، تغرق في بحار الجهل، وكأنّ الفترة التي يتناولها المسلسل ليست هي ذاتها الحقبة التي عاشت فيها ألفة عمر باشا الإدلبي، وسلمى الحفار الكزبري!

تتلاشى ملامح سوريا شيئاً فشيئاً من الدراما، ولا تجد أمامك فرصة لاستعادة ملامحها إلا في متابعة أعمال قديمة عفا عليها الزمان، ولكنّها تحمل نكهة الوطن، وصورة شوارعه وأهله الطيبين، وذكريات الأمكنة المحفورة في ذاكرتك بلا حواجز، ولا دويّ مدافع ولا أصوات انفجارات. أما من يعيش داخل سوريا، فهم إما ممن لا يستطيعون التنقل خارج حارتهم خوفاً من الحواجز، أو أنهم ممن لا تعني لهم سوريا سوى دولة مقرها بسطار!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات