هل كان أدب الثورة السورية على مستوى الفجيعة؟

هل كان أدب الثورة السورية على مستوى الفجيعة؟
غلب على الأدب العربي في سوريا خلال النصف الثاني من القرن العشرين صفة أدب التحرير والتحرر. التحرير من الاستعمار واستعادة الأرض السليبة، والتحرر الاجتماعي من التخلف، وقضايا المرأة، ونبذ العشائرية والطائفية.

وقد سيطر الرعيل الأول من الأدباء على الساحة الأدبية السورية، وتخطى معظمهم الساحة السورية لتنتشر أعمالهم على كامل التراب العربي، من أمثال نزار قباني، وأدونيس، ومحمد الماغوط، وعمر أبو ريشة، وسليمان العيسى، وحنا مينة، وغادة السمان، وكوليت خوري، وزكريا تامر، وعبد السلام العجيلي..

ولم يواجه معظم الأدباء السوريين في تلك الفترة النظام السياسي بشكل مباشر، لعدم قدرة الأنظمة المتعاقبة على الاحتفاظ بالسلطة والاستمرار في حكم سوريا لفترة تزيد على سنوات بعدد أصابع اليد الواحدة، نظرا للانقلابات العسكرية المتسارعة التي قدمت نفسها كثورات شعبية، فكانت «ثورة» تنقلب على «ثورة» في أروقة قيادات الأركان، وما كان أكثر من «الثورات الشعبية السورية».

ولكن منذ أن دخلت سوريا مرحلة مظلمة من تاريخها مع الحقبة الأسدية التي بدأت «بالانقلاب الثورة» (الحركة التصحيحية 1970) انطلقت التحولات في معطيات الأدب، وبرز أدباء جدد على الساحة لم يستطع النظام تدجينهم بوسائله المختلفة. إذ لم يعِ الأدباء خطورة هذا «الانقلاب الثورة» وإلى ماذا كان يرمي إلا متأخرا، بعد أن ظهرت جليا سياسته الطائفية القمعية، واستشراء الفساد، خاصة بعد المجازر التي ارتكبها الأسد الأب في أكثر من مدينة سورية، وخصوصا في حماه، وحلب، وسجن تدمر، فبات لسوريا، وسياسته في القمع الرهيب على جميع المستويات، وكم الأفواه، وتدجين الكلمة، وفرض الخطاب البعثي - الأسدي، المهلهل، المنافق، المبتذل، المتدني، الموارب، المروج لعبادة الشخصية، وتمجيد النظام، وتلميع صورة مخالفة لصورة الواقع المرير الذي عايشه الشعب السوري الذي أوصل سوريا في نهاية المطاف إلى الفجيعة الكبرى، إلى تحويل المدن السورية إلى كربلاءات الدمع، والدم.

وتبدأ الفجيعة السورية على مستوى الأدب بسؤال: هل كان أدب الثورة السورية على مستوى الفجيعة ما قبلها وما بعدها؟

بعد فترة المجازر التي سادت سبعينات وثمانينات القرن الماضي، بدأت بوادر خطاب جديد، خطاب الانعتاق، المعبر عن وحشية النظام الأسدي، والوضع المزري السائد، فهناك من بدأ ثورته قبل الخامس عشر من مارس (آذار) 2011 رافضا الخطاب البعثي - الأسدي المهلهل، بتبني خطاب «الممانعة»، «خطاب عودة الوعي»، «خطاب الاستفاقة الأولى» خطاب كسر طوق الصمت الرهيب، خطاب تلمس الطريق الأول للتخلص من الكابوس المخيم على الصدور. وإن كان بعضها بلغة الرموز التي تحتاج إلى تفكيك لفهم المغزى. وكان هناك صرخات حادة من الأعماق هنا وهناك نالت عقابها من السجن، والتعذيب، والتهجير. هذه الصرخات لم تشكل تيارا جارفا، لكنها كانت أول ضربات المعاول في جدار ديكتاتورية الكلمة، ورفض خطاب سلطوي مفروض بالترغيب والترهيب.

لعل الشاعر الكبير

نزار قباني

أول من صرخ في وجه الطاغية، بوضوح الكلمة المباشرة، وبسخرية لاذعة في عدة قصائد راجت، منها قصيدة الديك:

في حارتنا ثمة ديك عدواني

فاشيستي نازي الأفكار

سرق السلطة بالدبابة

ألقى القبض على الحرية والأحرار

ألغى وطنا

ألغى شعبا

ألغى لغة

ألغى أحداث التاريخ

وألغى ميلاد الأطفال

وألغى أسماء الأزهار

في رواية

عماد شيحة «موت مشتهى» ي

صوّر الكاتب عملية التحول، يحكي قصة شخصيات يمرون بمراحل تحولهم من أناس كانت حياتهم في قراهم تقتصر على الفلاحة، والتعليم البسيط، ثم ينجرون وراء تجارة التهريب، ثم يتسللون إلى السلطة والانغماس في فسادها، ثم تظهر شبكات ومراكز الأمن العنكبوتية التي تنسج بيوتها في كل مكان على الأرض السورية، ثم يدخل الفساد إلى صلب العائلة نفسها عندما يحاول أحد الإخوة «ناصيف» حرمان إخوته من الميراث. وصف لتفسخ المجتمع السوري بفعل السلطة وبمعرفتها، وبتخطيط مسبق لجعل الأخ عدو أخيه.

الكاتبة

حسيبة عبد الرحمن

التي عرفت سجون السلطة الأسدية نشرت ثلاثة أعمال، نذكر منها في هذا المقام

رواية «سقط سهوا»

وهي عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة التي تعالج كل واحدة منها قضية من قضايا الوجع السوري. في ظل هذا النظام تروي لذة الانعتاق، والعودة إلى الحياة بعد الاعتقال. التوق لبساطة الأشياء التي هي حق لكل إنسان: الطعام، الشراب، الأمن، الحب. قصص لشعب يرزح تحت نظام الظلم والذل الذي عمم الظلم والحرمان. تقول الكاتبة مصدرة عملها:

اسمك فقط قبل الرحيل

تبعثر أوله حين حظروا على التجاعيد في وجه أمي

وآخره حين حظروا على التجوال في ذاكرتي

لم أدخل الزمن الصعب

لكني تلوثت بمزاريبه

أريد أن أسند على كتفي

كتفي على كفي

كفي على أرض صلبة

وأنام

أنام بهدوء العاصفة

خطاب متحرر من مفردات السلطة، بل هو ضد مفرداتها، قاموس جديد في تاريخ الأدب في سوريا، في مرحلة التكون وبدايات التمرد.

روزا ياسين حسن في روايتها «حراس الهواء»

التي تعالج معاناة طالبي الهجرة واللجوء، تحكي حالات اليائسين من أوطانهم، الهاربين إلى المجهول عله يكون أفضل من الواقع المعيش تحت القهر والفقر. لكل لاجئ قصة، قصص متشابهة في عالم عربي بشكل عام، وسوريا بشكل خاص تتردد فيها حالات الظلم، والفقر، والتعسف، والهروب من واقع أليم.

«سقط الأزرق من السماء»، رواية الكاتب منذر بدر حلوم،

تصور الكاتب مدرسة في قرية، وأطفالا عاشوا معا براءة الطفولة والصداقة الصادقة، التي ما تلبث أن تتحول إلى عالم مغاير تماما عندما يصل هؤلاء إلى النضج، فيصبحون تجارا بالقيم والأنفس في مضمار التسلق السريع حتى على حساب انتهاك الكرامات، وجثث الآخرين. بسام وخالد شخصيتان في الرواية تعكسان واقع سوريا: احتيال، ابتزاز، خيانة، استغلال جنسي، اتهامات باطلة، وتقارير أمنية ملفقة، استخدام سيئ للنفوذ، العبث بمصاير الناس البسطاء. رواية تكشف المستور في لعبة نظام لا يتوانى عن استخدام كل الوسائل ليبقى سائدا. رواية تكشف مدى تحلل القيم، وأيادي السلطة الخفية وراء اللعب بالنفوس.

أما الكاتب

خالد خليفة في رائعته «مديح الكراهية»

التي نالت عدة جوائز أدبية، فيعبر مليا عن هذه الحالة من الكراهية التي دبها النظام في أنفس السوريين بسياسته الطائفية التي جعلت بطلة الرواية تنخرط في فكر الانتقام الطائفي، وتصبح «جهادية» لتنتهي بالسجن فتعود إلى رشدها وتبدل فكرها: «في الأيام الأولى لسجني اقتربت من الموت، رأيت ألوانه واضحة الخطوط، مسالمة، هادئة، تدخل الكائن في الملكوت، تقوده إلى ذلك الصراط الممتد كخط واضح بين النار والجنة التي كنت موقنة بأنها منزلي الأبدي ما دمت (مجاهدة)، كما أسمتني نشرات جماعتي.. للحظة خطر لي أنني أحب الحياة أكثر من لقب (الشهيدة) الرمز».

الرواية تمثل صورة عن الأحداث التي وقعت خلال ثمانينات القرن الماضي، والمجازر التي لحقت بحماه وحلب. رضوان الأعمى يقود نساء العائلة اللاتي تأخذ كل واحدة منهن دربا مختلفا عن أختها، من زواج غير مرغوب فيه طائفيا، إلى هجرة قسرية من بلد بات جحيما، والراوية البطلة التي تسرد ذكرياتها بمرارة في الحلق «كفراشات محنطة» كما جاء في عنوان الفصل الثاني. رواية جريئة بلغة فريدة لم تكن تجري على الألسن في زمن قطع الألسن.

* المصدر: صحيفة (الشرق الأوسط) 16/8/2015

التعليقات (8)

    ابن الميدان

    ·منذ 8 سنوات 9 أشهر
    وهل ابقى النصيريين في سوريا أدبا : يا ناعســــــــــــــــي هات كاس عرق

    أبو الشمقمق

    ·منذ 8 سنوات 9 أشهر
    ...الحياة الثقافية في نظام حكم الطائفة العلوية ........ في الحياة الثقافية كما في غيرها ، كان للمخابرات ومن خلال ضباط الأمن الذين يسيطرون على كافة مرافق الدولة عين ساهرة وأيد قاهرة ونفوس عاهرة ، للتدخل في أي نشاط ثقافي مهما كانت طريقة التعبير . فكانت السيطرة كاملة على الجامعات والمعاهد والمدارس والمراكز الثقافية والصحافة والاعلام من خلال اتحادات شكلية تابعة للحزب الذليل حزب البعث ( اتحاد الطلبة واتحاد الصحفيين واتحتد الكتاب العرب ومنظمة الشبيبة الطلائع )وغيرها من هذه التجمعات المشبوه

    أبو الشمقمق

    ·منذ 8 سنوات 9 أشهر
    واقتصرت الثقافة على توابع ضباط الأمن في صحافة الحزب وجامعاته من خلال محاربة مفاهيم الدين والقيم الأخلاقية والطعن بالأحداث التاريخية الملهمة للشعب . وسيطر كتاب وشعراء الطائفة على مقدرات الدولة الثقافية وزارة التعليم العالي ( الجامعي ) ووزارة التربية والتعليم ،وعلى اتحاد الكتاب العرب ، فخربت نفوس أجيال متعاقبة على مدى خمسين عاماً . امتد هذا السرطان الطائفي المدمر إلى الثقافة والتعليم . وهو في الحقيقة أخطرأ نواع السرطان لأن الثقافة فكر وذاكرة الأمة .

    أبو الشمقمق

    ·منذ 8 سنوات 9 أشهر
    ترسخت ثقافة الخوف في النفوس بسسب سطوة المخابرات .أصبحت ثقافة الأجيال ثقافة الطلائع والشبيبة والطلبة وغيرها مما ارتبط بالحزب التعيس حزب البعث العلوي الاشتراكي وهي تخليد القائد ومنجزاته ومعجزاته وملحقاته . حوربت اللغة العربية من خلال الحرب على القرآن . اضمحل رتل العلماء والشعراء والكتاب والروائيين والموسيقيين والرسامين والمبدعين والرياضيين في كافة المجالات . منعت القنوات الفضائية سنين طويلة لمنع الرأي العام من معرفة ما يحصل في الداخل والخارج .

    أبو الشمقمق

    ·منذ 8 سنوات 9 أشهر
    استوعب اتحاد الكتاب العرب والصحف والمجلات كتاب وشعراء الطائفة أو ممن يتغنى بالبطولات الوهمية للقائد وأولاده . تربت أجيالنا على أشعار سليمان العيسى ونسيت المتنبي والبحتري وابن الرومي والمعري . وأصبح تاريخنا انجازات باسل في ركوب الخيل وقيادة السيارات ومقابلة الفتيات ! - في المجال الإبداعي تشرد بدوي الجبل وعمر أبوريشة ونزار قباني . ماتوا غرباء عن موطنهم . عبد السلام العجيلي يعيش في كتاباته على غير وطنه . هاجر العلماء مثل علي الطنطاوي والشيخ الألباني وعصام العطار قسراً

    أبو الشمقمق

    ·منذ 8 سنوات 9 أشهر
    . أحرق الرسام المشهور لؤي كيالي نفسه وانتحر الشاعر وصفي القرنفلي واختفى الروائيان فاضل السباعي وفارس زرزور والباحثان عبد المعين الملوحي وأسماء الحمصي وصدر الدين الماغوط ، واعتزل الشاعر محي الدين البرادعي فمات وحيداً في يبرود ومات محمد الماغوط قهراً بعد خداع دريد لحام له ، وغاب علي كنعان ومات ممدوح عدوان مهملاً ، وحتى سعد الله ونوس صاحب ( حفلة سمر من أجل 5 حزيران ) وقد تملقته المخابرات بتنظيف اسم القائد الخـــــــــالد ( بصفته صانع الهزيمة ) في روايته على أن تقد م العناية الطبية له

    أبو الشمقمق

    ·منذ 8 سنوات 9 أشهر
    . أما ادونيس فقد اختفى عن الساحة السورية ليرتقي في بيوتات الغرب الأدبية وترفع من شأنه بسبب تناوله للذات الالهية ومهاجمة الاسلام والتحلل من الثقافة العربية ، ثم عاد وقد فوجىء بالثورة السورية على طائفته ، فتناسى كل معتقداته وانحاز بصورة آلية إلى الطائفة .

    الصوت والصدى

    ·منذ 8 سنوات 9 أشهر
    صدقت يا ابن الميدان... الانحطاط الأخلاقي العلوي الذي طال كل مجالات الحياة عهّر الأدب... وصار البطولة في الأدب السوري للسكارى والملحدين والممحونين على الجنس والذين يعتبرون التطاول على الذات الإلهية تقدمية ورقياً
8

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات