المأساة السورية في ديوان " بانوراما الموت والوحشة "

المأساة السورية في ديوان " بانوراما الموت والوحشة "
وفي ديوان "بانوراما الموت والوحشة" تحقق الشاعرة السورية رشا عمران الصدمة في أعلى درجاتها ، فالموت المطبق على الأراض السورية يصبح له حضور مختلف ، والوحشة أيضا مختلفة عن الوحشة التي تلفنا في الشوارع والبيوت والمقابر والزنزانات السورية ، بحيث تنتزع منا الشاعرة حالة الاعتياد ، وتجردنا من المألوف لتدخلنا في وحشتها الذاتية ، نظرا لفرط الحساسية التي تتمتع بها ، مما أكسب المقاطع الشعرية ميزة قلب المفاهيم والصور ، لتشكيل وعي مغاير عن الوعي المألوف للواقع و الذات معاً ، وهو بمجمله وعي في أعلى درجات مأساته ، فهذه الذات ، ورغم وعيها بكينونتها وكينونة واقعها ، تعيش حالة اغتراب كامل عن نفسها وعن محيطها ، فتارة تغدو الأشلاء االممزقة غريبة عنها ، وتارة أخرى تغدو مدركة ومعلومة بكل تفاصيلها .

والشاعرة تضعنا أمام متاهات و تساؤلات عديدة : عما إذا كانت تلك الاشلاء هي انعكاس للواقع المتخم بها ؟ أم هي من باتت غريبة عن الواقع ولا تر فيه سوى ذاتها الذبيحة ؟. وتأتي الأجوبة مغايرة للسياق المعتاد ، ففي لحظة ما كان هناك ثمة أحلام وخطط ومشاريع تواظب الذات على تحقيقها قبل أن ينالها التمزق والوحشة، فتمضي في خطواتها لتلملم كل ما أمكن لها من أحلام مبعثرة ، غير انها ، و في لحظة محددة ، وعت أنها لم تكن تمضي إلا صوب المقبرة.

وللمقبرة في هنا حضور بارز ، حتى أنه يمكن تلمس شكلها وأبعادها من خلال ظلالها على ذات الشاعرة ، وظلال الشاعرة عليها ، فتتحول إلى مكان يحتفي بالخصوصيات ، ويتفاعل معها ، و المأساة الاضافية تكمن ، في أن هذه المقبرة ليست ككل المقابر التي يتلاشى فيها والوعي ، بل تبدو الذات فيها في أوج وعيها لقبرها ، ولكل ما يحتويه من ملامح و تفاصيل ، فهنا امرأة لم تزل تسافر إلى ماضيها وذكرياتها ، باحثة عما أوصلها الى المقبرة ، وهي بعد لم تمت ، بل تصر في عملية بحثها ، البحث عن أنوثته و تفاصيلها الحميمية و أحلامها التي تحولت جلها إلى أوهام وكوابيس ، لكنها لا تجد في نهاية المطاف إلا ان تفر منها إلى سريرها الذي هو وجزء أصيل من مكونات مقبرتها ، كحال الوسادة والمنضدة والكيبورت والبلاط وفنجان القهوة .. كلها غدت مفردات وديكورات مؤسسة لهذه المقبرة .

جميع المقاطع الواردة في ديوان "بانو راما الموت والوحشة " تشد انتباهنا بطريقة خاطفة وصادمة ، نظراً لغنى الصور وقوة حضورها في سعيها لرسم مشهد مختلف للحياة عما كنا نعتقده ، والمجيء بصور ومعاني ومفردات مدهشة ، و فعل الاندهاش المقدم عبر سياق النصوص والمقاطع يدفعنا للذهول من مشهدية واقعنا ، فحينما ترسم الشاعرة رشا مقطعها الشعرية تحدث مفارقة صادمة وعنيفة تهز وجدان القارئ وتشير إلى لعبة موت سريالية .

فالأموات عندها يمضون إلى حتفهم وهم واعون لذلك ، ويتم رصد ذهولهم والخوف البادي على وجوههم في لوحة مفعمة بالمرارة والوحشة ، وهل ثمة أقسى من موت مدرك عند ضحاياه ؟ ، ومع ذلك هم يكافحون ضد موتهم ، مكابرين على المصير الذي حل بهم ، فمعظمهم لم يأتيهم الموت على نحو ما ألفناه نحن ، بل هم يموتون تحت ركام بيوتهم المهدمة بفعل قصف طائرات نظام الأسد ، والتي تعصرهم إلى حد أنها ترغمهم على اصدار انين العذاب والنواح المحمول معهم كيفما تحركوا ، مما يجعلهم في حالة وعي كامل لموتهم ، وهذا ما يجعل موتهم قاسيا وعنيفا . هذا الموت السوري حاضراً بقوة في ديوان رشا عمران ، فحتى عندما تتحرر الذات من عتمة المقبرة ، وتجوب الشوارع والطرقات ،لا تجد مكان تستريح فيه ، سوى الأرصفة و المدن الموحشة ، فتهرب منها وتعود إلى غرفتها المعتمة والتي لا تشبه أية من الغرف ، لكنها تشبه فقط المقابرة. هذا الواقع الخارجي ، هو من يعيد الذات الى مقبرتها التي هي نتاج القبر الأكبر ، والعتمة الأشمل التي حلت على المدن والشوارع والأرصفة السورية . وصور الضحايا في وسط هذه الوحشة ، تقدم ضمن مشاهد مثيرة ومكثفة على نحو مريب ، فالضحايا هنا يسيرون إلى حتفهم في مشهدية جعلت حتى النمل يصاب بالدهشة حينما أبصرهم يجمعون أشلائهم وعظامهم كما يجمع هو فتات الشعيرة المبعثرة .

والمأساة ليست حكرا على الصور والمشاهد والمصائر ، بل هي حاضرة على نحو لافت في الأمكنة ،ومستوياتها ، إلى حد ان ثمة تنافس بينها على أيهما اكثر مأساوية ، وقد تجلى ذلك في استحضار الزنزانة في المقبرة ، ومن داخل هذه المقبرة تستعر عاطفة الشفقة على الصديقة القابعة في زنزانتها ، فرغم بؤس الذات في مقبرتها ، تشفق لحال من يقبع في زنزانة السجن ، وكأن الامكنة بناء متدرج لا يمايز بينها سوى وطأة شقاء وعذاب من يقبع بها.

والأم السكى حاضرة في الحيز المكاني والشعري ، تلك الأم التي ربت أولادها وأطعمتهم من جسدها ، سرعان ما تكتشف ، أنها لم تكن تربي سوى كائنات مصيرها أن تتحول ، وقبل أوانها ، الى تراب ، أم صار أطفالها ضحايا القتل والصراع ، وصار ابنها الشهيد عندها ليس إلا مقبرة لها.

كأنني أم الشهيد

أنزل القبر

قبله

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات