إلى محمد الماغوط: أعادوا إليه كل شيء وهو في الطريق إلى المقبرة

إلى محمد الماغوط: أعادوا إليه كل شيء وهو في الطريق إلى المقبرة

مات هذا الشاعر، لكنه كان أكبر من كل هذا الخراب المحيط به، و من هذه الألسنة التي لم تقرؤه، وحكمت عليه بعد موته أحكاماً غيابية تخص شعره وكتاباته السياسية الصحفية ومسرحه ومجمل نتاجه الإبداعي.

عرفته في الخمس سنوات الأخيرة قبل رحيله، كان يائساً كجبل تربته لا تسمح بالربيع، وحين كنت أزوره في منزله الواقع بحيّ المزرعة كان سعاله يسبقه لفتح الباب، عشرات العلب من السكائر على الطاولة، كأنه كان يريد أن يأخذ حصته من كل شيء قبل أن يرحل، حتى من المرض والتبغ والشراب والخوف!

غريب هذا الرجل، كيف تحمّل كل هذه الأمراض السياسية والاجتماعية والأخلاقية التي خلقتها الأنظمة العربية لشعوبها؟ وهو بمعظم ما كتب تنبأ بكل هذا الخراب الذي نعيشه الآن.

خراب طائفي على امتداد الوطن العربي، قال في مقال له بعنوان "في قطار بحري أو طائرة تحوم" : "المختبرات الفضائية تصل إلى الزهرة والمريخ والمشتري وعطارد ونحن غارقون في:

فلان سنّي

فلان شيعي

فلان درزي

فلان علوي

فلان قبطي

فلان اسماعيلي

فلان شافعي

فلان حنبلي

فلان سرياني

فلان تركماني

فلان من هذه العشيرة.. "

وعلينا أن ننتبه منذ متى كتب هذا الكلام الصادق الجارح، كتبه منذ عام 1987. وفي بدهيات النقد الأدبي يجب قراءة النص ومحاكمته ضمن سياق الزمن الذي كتب فيه، وطبعاً علينا أن لا ننسى أن الماغوط عاش معظم عمره ومات في دمشق.

يعني كان يعيش في قلب الرعب، يكتب عنه ويعممه عربياً، يهجو المخابرات العربية التي تعتبر بالنسبة له الإرهاب الكبير.

وكما يشتبك القاتل بدم القتيل، كان يدخل بيته الشاعر والصحفي والمخبر والتافه و ضابط المخابرات الذي كان معه في المدرسة الابتدائية، وأعضاء من اتحاد الكتاب العرب، ويزوره أيضاً المبدعون والصادقون والطيبون، وكان إذا كره محضر أحد من هؤلاء يعبس كمقاتل قرر الحرب ولا يملك سوى وجهه ونزقه، وكان يروق في حضرة أصدقاء يحبّهم فيروي ذكرياته المريرة عن سجن المزة وعبد الحميد السراج وقصائده التي كتبها على ورق التبغ في سجن المزة وهرّبها للخارج، إذا قال أنه لا يحبّ فلاناً فهذا يعني أنه لا توجد قوة في الأرض تجعله يغيّر رأيه في هذا الشخص.

كان يقظاً وحذراً من كل شيء حوله وخائفاً كأنه مطلوب في تلك اللحظة للتحقيق في فرع مخابرات، وحين سئل مرة عن الفترة القصيرة التي أمضاها في سجن المزة ردّ: بأن السجن لا يقاس بالسنوات إنما بالآهات والآلام التي يتركها في الروح.

عمّر بيته في سلمية راسماً صورة بيت الأهل الباقي في ذاكرته، ولكنه زار البيت ميتاً، زاره محمولاً في تابوت.

كان قاسياً كمطرقة تهبط على مسمار ورقيقاً حنوناً كطفل، لأنه جاع في طفولته بقي جائعاً حتى لحظة موته، رغم البحبوحة البسيطة التي عاشها في أواخر عمره، وكأن عمره يلخص قصيدته "عتابا معاصرة"

الذين ملؤوا قلبي بالرعب

ورأسي بالشيب المبكر

وقدحي بالدموع

وصدري بالسّعال

وأرصفتي بالحفاة

وجدراني بالنعوات

وليلي بالأرق

وأحلامي بالكوابيس

وحرموني براءتي كطفل

ووقاري كعجوز

وبلاغتي

كمتحدث

وصبري كمستمع

وأطياني كأمير

وزاويتي كمتسول

وفراستي كبدوي

وحنيني كعائد

ثم أخذوا سيفي كمحارب

وقلمي كشاعر

وريشتي كرسام

وقيثارتي كغجري

وأعادوا لي كل شيء، وأنا في الطريق إلى المقبرة

ماذا أقول لهم أكثر مما يقوله الكمان للعاصفة.

من رآه في شيخوخته سيعرف أي أحلام كانت في رأس هذا الشاعر الذي تناولته فؤوس الكارهين شفوياً وكتابياً بعد موته.

مفردة الحرية لم تفارقه طوال حياته، عبّر عنها في كل نصّ صحفي، في كل حوار مسرحي، قصائده كانت تتنفس هواء الحرية.

من هنا كتب عن القمع العربي، عن المخابرات، عن الجيوش المهزومة، ويعرف أن الإنسان بدون حرية مهزوم مهزوم، وفي مقاله "عربي في هايد بارك" يتعرف في لندن على فتاة تريد أن تتعلم اللغة العربية وهو يريد تعلم الإنكليزية منها، يتفقان على ذلك ويبدأ الدرس:

بالانكليزي "سكاي"

بالعربي "سماء"

بالانكليزي "صن"

بالعربي " شمس"

بالانكليزي "مون"

بالعربي "قمر"

بالانكليزي "حرية"

بالعربي "حذاء"

ونظرت إليّ مستغربة،فقلت لها: نعم، إن لهما المعنى نفسه في البلاد العربية.

وفي مقالته "كتم معلومات" يقول: "لماذا تفرض على هذا الشعب التعس النبيل من محيطه إلى خليجه أقسى وأطول "حمية" في التاريخ: حمية عن الحرية، حمية عن الديمقراطية، حمية عن الحبّ، عن الفرح، عن التظاهر، عن السفر، عن العودة، كأنه مصاب " بقرحة ابدية" وعليه أن يعيش إلى ما شاء الله على الحرّيات المحمصة والبرلمانات المسلوقة، لماذا؟"

وبعد كل هذا يأتيك مثقف أو قارئ أو يساري أو يميني ليقول أمامك أن الماغوط " كان من ركائز الاستبداد"!

كتب ما كتب وتقول عنه من ركائز الاستبداد؟ إذا كان هو كذلك، فماذا نقول عن كتابات علي عقلة عرسان و مواقف كوليت خوري و افتتاحيات نجاح العطار في مجلة المعرفة إذاً؟

ألم يتنأ بهجرات الشعوب العربية عندما صنع شخصية "أبو ريشة" في مسرحياته، هل تذكرون أبو ريشة وهو ينتظر الطائرة والسفر؟

ألم يقل مرات ومرات بأن اليد الخائفة لا يمكن أن تصيب الهدف وأن إرهاب المخابرات العربية أكبر إرهاب في المنطقة؟

هل تحاسبوه على حزب سياسي هو نفسه قال لم يقرأ صفحتين من مبادئه بعد أو حملة تبرعات قام بها لصالحه، حيث اشترى بها بنطلون وقميص وشمّع الخيط، هل كان يكتب هنا مجازاً؟ لا أعتقد ذلك.

بالتأكيد له أخطاء كأي إنسان ولد في هذه المنطقة العربية التي تعتبر ثكنات أمنية وعسكرية حتى تاريخه، لا بل له مزاج حاد ومرعب، ولكن ما شأننا نحن بمزاجه؟ وهل نريد من الأديب والشاعر أن يكون تمثالاً، صنماً بلا مشاعر وأحاسيس؟

ثم أن شخصاً بهذه المواصفات الإبداعية والحساسية العالية كيف لا يكون له أخطاء وقد مرّ على رأسه نكبة فلسطين وهزيمة حزيران واتفاقية كامب ديفيد وأنور السادات ومحمد حسنين هيكل وإرهاب المخابرات المتمثل بعبد الحميد السراج وجلاديه؟ ومرّ على رأسه معقدون نفسياً ومخبرون بعدد ضبوط الشرطة.

هل كان المطلوب منه أن يكون لغزاً كخطابات الرؤساء العرب مثلاً؟ أم كان المطلوب منه أن يكون قديساً؟

كان في حياته وكتاباته مكشوفاً وواضحاً مثلنا بعيوبه وشجاعته وعبقريته وخوفه وحزنه الكبير.

لكن ما ذنبه إذا كان النظام السوري في العمق ومن أيام حافظ الأسد يتمنى أن يدفن ذكراه وذكرى كتاباته؟

ما ذنبه إذا كان الكثير من أرباع المواهب يعتقدون أنهم سيحققون شهرة أدبية إن هجموا عليه بحجارتهم وشتائمهم؟

ما ذنبه إذا كان بكل هذا النبل والشرف والصدق والإبداع في بلاد تنجب من الجلادين أكثر مما تنجب من معلمي المدارس؟

ما ذنبه بعد كل هذا البلاء السياسي الرسمي والشعبي الذي عاشه ونعيشه؟

لو كان الماغوط عند الإنكليز لكان يعادل شكسبير، ولو كان ملكاً للفرنسيين لكان بقيمة فيكتور هيغو.

و لكن لاشيء يعادل الهزائم الكبرى في هذه الأمة سوى الخذلان الذي نفعله مع عباقرتها ومبدعيها.

فيا صاحب أكبر بنك خوف بالعالم تمسك بموتك أكثر، تمسك بتراب قبرك لأن التخلف ومعه الجهل أكبر منجم لإنتاج المجانين والمجرمين والحكام في العالم.

كاتب سوري

التعليقات (4)

    أبو القاسم مصياف

    ·منذ 8 سنوات 8 أشهر
    مشكور سيد مصطفى في مقابلته مع مجلة الناقد .. ذكروا له مجموعة أسماء لأشخاص وطلبوا منه التعليق وحينما ذكروا له: دريد لحام .. قال الماغوط: لقد امتهنني! وفعلا لم يظلمه .. فها هو يشبح ومنذ بداية الثورة في حب القائد الواطي ابن القائد البائد! الماغوط خان وطن الشبيحة! حين كتب سأخون وطني! وكان صادقا وواقعيا حتى العظم! ويلعن روح روحك يا حافظ!

    مهند الكاطع

    ·منذ 8 سنوات 8 أشهر
    مقال رائع ، سلمت استاذ مصطفى على هذا التذكير " المؤلم" بهذا العملاق

    إضافة

    ·منذ 8 سنوات 8 أشهر
    وإيران تلتقط بقاياها

    معاوية الأموي

    ·منذ 8 سنوات 8 أشهر
    الله يرحم محمد الماغوط اللي كشف الطاغية الملعون على حقيقته
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات