مقاربة معرفية

مقاربة معرفية
(الوعي والمعرفة) للكاتب التركي: تورغاي ألدمير

إلى أيّ حدّ يمكن للوعي الديني المعاصر أن يصمد أمام التحدّيات الفكرية والسياسية الراهنة؟ وهل بمقدور الخطاب الإسلامي الذي يسعى للتعايش والاندماج الاجتماعي والثقافي أن يُنتج خطاباً ثقافياً قابلاً للتعبير عن مُعطى اجتماعي عام، وذلك في مقابل عواصف التطرّف التي تجتاح العالم الإسلامي عسكرياً وسياسياً ؟

لعلّه من العسير الإجابة عن هذا السؤال دون ملامسة جدّية وجريئة بآن معاً لمجمل إخفاقات المشروع الإسلامي( على اختلاف توجهاته وتنوعها)،والتي يصعب حصرها في هذا الحيّز المُتاح.ولكن يمكن القول: إن ثمة مشكلتين كانتا دائمتي الحضور في معظم المشروعات الإسلامية،سواء أكانت تلك المشروعات حزبيةً أم دعوية.

الإشكالية الأولى: معرفية ثقافية،ويتجلى فيها الصراع بين آليات الفهم وطرائق التفكير في مواجهة النص القرآني، فهل تكون قراءتنا للنص القرآني محكومة بمعطيات تاريخية ومعرفية ثابتة ومحدّدة؟ أم أنها ستكون قابلة للتزوّد بما ينتجه الفكر البشري من جميع أصناف العلوم؟ قد يستدعي هذا التساؤل سؤالاً آخر أكثر دقةً،هل عبّر النص القرآني عن قيم ومعان ثابتة،وعلى الفكر البشري أن يتكيّف معها،أم أن تلك القيم والمفاهيم منفتحة قابلة للتفاعل مع مفرزات التطور الفكري على امتداد الزمن؟

الإشكالية الثانية:قيمية أخلاقية، وتتجسّد بين نمطين من التفكير والسلوك معاً،أحدهما تاريخي مُستمدّ من موروث ديني اكتسب صفة القداسة دون أن يكون مقدّساً في الأصل،وعزّزت من قداسته منظومة فقهية تنتمي إلى العهود (الإمبراطورية).

وثانيهما ثقافي(تاريخاني) يسعى للاندماج الإنساني ويستلهم من الدين معطياته الأخلاقية والحضارية القابلة للتكيّف و التقاطع مع أنماط السلوك الإنساني لدى بقية الأمم والشعوب.

ثمّة محاولة جدّية نلمسها في كتاب(الوعي والمعرفة) للبحث في هاتين الإشكاليتين السابقتين،وكذلك ثمة تصوّر واضح لدى مؤلف الكتاب الأستاذ(تورغاي ألدمير)عن جوهر الأزمة التي تواجهها الكيانات الإسلامية الطامحة لتحويل مشروعها الفكري إلى تجربة اجتماعية مُعاشة. علماً أن هذا الكتاب لا يكتسي سمة التنظير الفكري والإيديولوجي الخالص،بل هو مزيج من التصورات الفكرية والعملية بآن معاً،بل يمكن القول:إن الكتاب هو أقرب ما يكون إلى برنامج عمل لميادين اجتماعية واقتصادية وثقافية،ولعلّ هذه السمة أو هذا النهج من التفكير ذو علاقة وطيدة بمجمل التصوّرات والأفكار التي يؤمن الأستاذ تورغاي بصوابيتها وسلامتها.

إشكالية المعرفة والبحث في تجلياتها هي أولوية لدى المؤلف،إذ إن الأزمة التي يواجهها المسلمون تتجلى بمظاهرها الفكرية أولا(ص 18 ) ولكنها ليست أزمة ناجمة من الدين الإسلامي كمُعطى رباني،بقدر ما هي ناجمة من آليات التفكير البشري وطبيعة رؤيته للدين.ولتجاوز هذه الأزمة،يؤكد الأستاذ تورغاي على وجوب قراءة الإسلام قراءة معرفية وليست قراءة فقهية،ذلك أن القراءة الفقهية تستند إلى إرث فقهي تم إنتاجه في زمن بعيد وفي ظروف مغايرة للظروف التي يعيشها المجتمع الإسلامي المعاصر،وبالتالي فإن الفتوى الفقهية إنما تلبي حاجة غالباً ما تكون بنت وقتها،وإذا تغيّرت الظروف ستتغير الحاجات بالتأكيد. بينما القراءة المعرفية فغالباً ما تكون مزوّدة بروافد علمية وثقافية متجددة من جهة،وكذلك تكون مواكبة لتطلعات الناس وحاجاتهم الراهنة من جهة أخرى.

ولعلّ هذا الفهم المعرفي لجوهر الدين الإسلامي،له ما يلازمه من مفاهيم أخرى،كالانفتاح الحضاري والثقافي على الآخر،والتطلع نحو المستقبل وعدم الارتهان لمفهوم (النوستالجيا)والإيمان بالحرية كشرط أساسي للتديّن الحقيقي،ونبذ الإكراه والتسلّط،والنظر إلى قوله تعالى( لا إكراه في الدين) على أنه دستور يجب التمسك به والدفاع عنه.

إلّا أن عظمة الإسلام - وفقاً للسيد تورغاي- لا تكمن في جانبه الإيماني والإيديولوجي،بقدر ما تكمن في جانبه الإنساني والاجتماعي،أي لا يمكن للإسلام أن يحيا دون مجتمعات بشرية،فالدين إنما أنزله الله لخدمة الإنسان،وليس ليبقى في السماء،ومن هنا يبدو إلحاح السيد(تورغاي) على ترجمة الإسلام إلى خطط ومشاريع عمل ينتفع بها الناس،وبرامج يتقوّم عليها النهوض بالاقتصاد والثقافة والفن وشتى ميادين الحياة.ولعل هذا ما جعلنا نرى العديد من فصول الكتاب تتحدّث عن التعليم والأمانة والسياسة والتاريخ وقضايا إنسانية واجتماعية متعددة.

ومما لا شك فيه،أن كتاب (الوعي والمعرفة) يتضمن طرحاً فكرياً إسلامياً ليس مستوحى من الذهن فحسب،بل يستمدّ مكوّناته من تجربة حيّة على أرض الواقع وهي تجربة (حزب العدالة والتنمية)كما تجسّدت في الدولة التركية،تلك التجربة التي استطاعت أن تحقق نجاحاً ملحوظاً في النهوض بالاقتصاد والتطوير الخدمي والمجتمعي بشكل عام،ذلك أن (حزب العدالة والتنمية) لم يعتمد على عنفوان الإيديولوجيا كحامل للحزب وكوسيلة للوصول إلى الآخرين،بل كانت الحوامل البرامجية الاجتماعية والاقتصادية هي الطريق الممهّدة للوصول إلى السلطة.

ربما يكون القارىء الجادّ لكتاب(الوعي والمعرفة) إسلامياً أو غير إسلامي،مؤمناً أو غير مؤمن، ولكنه لا بدّ أن يكون معرفياً بالدرجة الأولى.

* تورغاي ألدمير: رئيس منظمة منبر الشام في تركيا، وأحد مفكري حزب العدالة والتنمية في تركيا، له عدة مؤلفات منها ، (روح الزمان) و (الوعي والمعرفة)

ترجمةالكتاب: علاء الدين حسو

التعليقات (2)

    عزيز

    ·منذ 8 سنوات 8 أشهر
    لم أقرأ الموضوع كاملا لكن يبدوا لي مألوفا. مشكل بعض العرب منهم الاسلاميين أنهم لا يقرؤون و اذا قرؤا لا يفهمون و اذا فهموا لا يطبقون و اذا طبقوا لا يستمرون. هناك مثال عن اخلاص الدب الذي رمى حجرا ضخما على بعوضة رأها على أنف صاحبه فقتله عن غير قصد. هذا يدل أن الاخلاص وحده لا يكفي يجب أن يكون معه الصواب. هذا المثال ينطبق على بعض الأسلاميين الذين يقعون أداة قتل في يد المخابرات كأتباع قادة داعش.

    عزيز

    ·منذ 8 سنوات 8 أشهر
    "ان الله يبعث الى المسلمين على رأس كل مئة سنة من يجدد لهم دينهم" "لا يصلح اخر هذه الأمة الا بما صلح به أولها". لما فهم اليهود عظمة هذا الدين فعلوا ما فعلوا في العرب حتى جعلوهم غثاء كغثاء السيل . بل جعلهم لا يفكرون الا في بطونهم و يتسابقون على الدنيا و كأن الله خلقهم عبثا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات