لا يستمد الديكتاتور الأسد قوته الرئيسية مما لديه من أدوات العنف العاري أو من مساندة القوى الخارجية له فحسب، كما أنه لا يشكل النظام الذي يسعى الشعب لإسقاطه وإنما جزئية يكون فرزها طبيعي في شكل النظام القائم أصلاً، يستمد النظام أسباب بقائه من عدم وجود نية حقيقية لدى الفريق الأعظم من المعارضين للأسد والمعادين له في إسقاطه، لأنهم جزء من آخر يدور حول النواة نفسها التي يدور حولها الأسد، بنى الالتزام الطائفية التي فرضتها حالة التوحش التي تحدث في سوريا اليوم تدل على أن مجاميع السوريين كانوا بحالة مهيأة للانخراط فيها أثناء الأزمات. تسميات الجمع بجمعة صالح العلي وجمعة آزادي وغيرها وضرورة إطلاق عبارة "الشعب سوري واحد" هي تسميات احتياطية استباقية تدل على ما خلف الأكمة، الشعب السوري ليس واحداً اليوم، هو مجموعة متناحرة من الجماعات الإثنية ترتبط ببعضها بما يلبي مصلحة كل جماعة على حدا، كما تفك ارتباطها في الوقت الذي لا يلبي فيها تلك المصالح، وهذا الحديث لا يندرج على الفصائل العسكرية المقاتلة على الأرض فحسب، بل على القوى السياسية والثورية بمختلف نشاطاتها وتوجهاتها، والمنظومة الفكرية الضابطة للمنطق لدى السوريين عموماً تزيد أيضاً على ذلك التشظي الإثني بالتشظي على المستوى الجهوي والعشائري والعائلي وحتى الشخصي، ولا تسمح لحيز ما بين الصداقة والعداوة، فلا تنافس ولا خصومة، عداوة بين الأطراف فقط، مما خلق مناخاً مناسباً للتدخلات الخارجية التي رأى فيها الأفراد والجماعات على حد سواء حلفاء لهم دون باقي السوريين، بل وطريقة للاستقواء مما حولهم هم لتابعين لتلك التدخلات.
في ظل تلك العقلية المبنية على التخشب والارتداد يستحيل إسقاط النظام، حتى لو رحل الأسد وتم القضاء على عناصر وأدوات مؤسسته الديكتاتورية، لأن النظام القائم في الطبيعة العلائقية بين السوريين سيولد حالة استبدادية أخرى قد تختلف عن الأولى في الشكل لكنها ستبقى مهدِّدة ومخرِّبة في مضمونها، وهذا ما يبدو ظاهراً في تجارب باقي ثورات الربيع العربي، النظام لم يقمه حافظ الأسد وابنه، وإنما استفادوا منه وعملوا على إعادة إنتاجه بما يتناسب وتطلعاتهم. هو كامن فينا نحن السوريين عامة، ومن الصعب اقتلاعه بعد أن رسخته آلة استبدادية عمرها خمسة آلاف عام، إلا أنه رغم صعوبة إسقاط هذا الشكل يبقى ليس مستحيلاً، لكنه يحتاج تعميداً بالدم الذي قدّم السوريون منه الكثير دون أن يستسلموا لإسقاطه، وسيقدمون المزيد والمزيد ما لم يتمكنوا من فهم الآلية التي يجب أن يسقط فيها النظام الذي ما إن يتهاوى حتى يسحب معه مفرزاته بمختلف أشكالها وعلى رأسها الاستبداد.
إن العقد الاجتماعي المناسب لسوريا حسب ما هي عليه اليوم هو الذي تحدث عنه توماس هوبز، ذلك النوع البدائي من العقود الاجتماعية الذي يفترض فيه أن المجتمع في ظل غياب الدولة تسوده حالة من العماء والإجرام والتوحش، والدولة يجب أن تتمتع بالقوة المطلقة المتمثلة بالعاهل الذي يقوم على ضبط المجتمع، حال السوريين اليوم في مجتمعهم يشبه كثيراً ما تحدث عنه توماس هوبز نتيجة الاستقطاب الهوياتي الحاد الذي يوفر قدراً من الحمائية غير المستدامة، وعليه فإن النظام القائم إلى الآن في المجتمع السوري هو نظام الفوضى الذي يمكن أن يستظل بمظلة دولة الاستبداد، فإذا لم يغير السوريون هذا النظام فالاستبداد حل حتمي لما يحصل. حتى نستطيع خلق المجتمع القيمي المثالي الذي ينحو نحو المسالمة وتكون فيه الجريمة استثناء لا قاعدة يجب أن نسقط النظام المتعشش في أنفسنا جميعاً، النظام المبني على فوبيا الآخر، وليس الآخر المختلف فقط، وإنما الآخر "الحيادي" الذي لا يمكن أن يكون نصيراً أو مفيداً ولو كان ينتمي لنفس الجماعة مهما ضاق حيزها الخاص. هذا النظام مرتبط بالبنى الجمعية التقليدية التي يقوم عليها المجتمع السوري الأهلي ليس بشكله وإنما بطبيعته. من المحتمل إسقاط الأسد في الفترات القادمة، والقضاء على الإرهاب، لكنه من الصعب الانتقال إلى دولة المواطنة الحديثة الحلم ما دامت تلك البنى التقليدية قائمة، بل لن ينتج إلا نظاماً جديداً في شخوصه متكرراً في مضمونه ومشابهاً لسابقه.
حين يستطيع السوريون أن يكونوا سوريين بالدرجة الأولى وتتمحور الهوية لديهم حول هذا التعريف سوف يخسر الأسد أهم أدوات استمراريته، ويخسر النظام سبب وجوده ويمكن للسوريين أن يحققوا شعارهم الأول في الثورة "الشعب يريد إسقاط النظام".
التعليقات (5)