عن الجدران..التماثيل...وسقوط الديكتاتور

عن الجدران..التماثيل...وسقوط الديكتاتور

ما زلت أذكر حتى اللحظة،  نبرة صوت جارتنا وهي تنهرني حين كنت أقصّ على ابنتها ما سمعته قبل يوم من أحد الأقرباء، معلّقاً على خطاب للطاغية "حافظ الأسد" قال لنا يومها أنه –حافظ الأسد- حين يلوّح بأيديه ، إنما يقول للشعب "رز ما في ..سكر ما في.. والله لأعصركن عصر" ;!

أخبرتني  يومها أنه لا ينبغي للصغار أن يتحدّثوا بشؤون الكبار، وكي توضح لي سبب حدّة ردة فعلها تجاهي، وهو ما لم أعتده منها: "بدّك تروحي أبوكي" ؟!

في الحقيقة لم تكن الجارة تخشى على والدي فقط، بل كانت تخشى على زوجها هي الأخرى، إن تفوّهت ابنتها أمام أحد ما بما سمعته مني، إذ أن أحداً ما لم يكن يتخيل أن النظام قد يفكر في الانتقام من الأطفال!

كبرت، وكبر معي ذلك الرعب والخوف؛ الخوف الذي لم يتبدّد إلا بمشهد اللوحة الكبيرة للطاغية، التي أسقطها أهالي مدينة  حمص وضربوها بالأحذية أمام شاشة محطة BBC التلفزيونية، يومها تبدّد الخوف عند الكثيرين، وبدأت حالات البوح عند كثير من السوريين.

لم يحكم الأسد الأب، والأسد الابن البلد بالحديد والنار وحدهما، بل حكماها بالإعلام الحربي، المعتمد على بث الشائعات، ترويج النكات، وخلق الفتن والنزاعات الطائفية والعرقية؛ هذا النمط من الإعلام الذي ينبغي أن يكون مكرّساً ضد العدو، ولذلك كنا نحسن النية تجاهه، قبل أن نكتشف أننا وحدنا العدو المقصود!

كانت كل النكات تركّز على ديكتاتورية النظام، وعجز المواطن حياله، وهو ما كان مقصوداً لتثبيت أركان إمبراطورية الرعب التي أسسها الأسد الأب، وأورثها للابن الذي لم يتمكّن من الحفاظ على إرث أبيه بالطريقة المنشودة، فالأب لم يسمح لشبكات الهواتف المحمولة في عهده بالعمل على الأراضي السورية، وكانت تكلفة تركيب صحن لالتقاط البث الفضائي لا تقل عن 60 ألف ليرة سورية، في وقت كان معه راتب الموظف لا يتجاوز 5000 ليرة سورية في أحسن الأحوال، وبالتالي من يملكون هذا الجهاز الخرافي هم في الغالب من الطبقة المقربة من مصنع الفرار، ممن لا خوف منهم..

بعد ذلك المشهد الذي جاء من حمص، توالت حفلات تحطيم تماثيل، مجطمة معها جدران الخوف، تلك الجدران التي لطالما قيل لنا أنّ "لها آذان" وأنننا ينبغي أن نسير بمحاذاتها ونقول: "يا رب السترة"!

حتى أمثالنا الشعبية كانت ذات طابع أمنيّ، تعزز سطوة الديكتاتور، وتقوي نفوذه في مخيلتنا. ومع الحصار الإعلامي والرقابة المشدّدة على كلّ كلمة تنشر أو تبث أو تذاع في البلد، تمكّن النظام من الهيمنة على جيل الآباء الذين عايشوا أحداث الثمانينات، وربوا جيلاً بأكمله على وجوب طاعة  "الأب القائد"، والتهيّب من رجال الأمن، وأن لادخل لهم بالسياسة؛ جاءت مشاهد تحطيم التماثيل للتمرّد على حالة التدجين التي مارسها الآباء، قبل التمرّد على حكم العسكر والأمن.

هذه التماثيل كشفت عن حكايا شعبية، كانت مخبوءة خلف الجدران، وبسقوطها تفتحت قريحة الناس في كلّ مدينة على حدة، لتروي قصص التهكّم التي كانت لا تروى إلا في الظل.

حكاية  تمثال "خمسة شاورما" في مدينة السويداء، والتي لم يكشف النقاب عنها إلا بعد أن أسقطه أحرار السويداء، لا تختلف كثيراً عن تمثال "أبو دانات" الذي أسقطه أحرار إدلب- اللقب الذي اعتاد أهالي إدلب أن يلقبوا حافظ الأسد به- والحكاية- النكتة التي يتندّر بها أهالي المدينتين، ليست متباينة، وستظهر حكايا أخرى في بقية المدن، حين تتساقط التماثيل فيها.

الغريب في الأمر، أننا لطالما ضحكنا من نكات كان ينبغي أن تبكينا على أحوالنا، فحكاية "خمسة شاورما"

تروي حكاية سرقة بلدنا منا بقوة السلاح وسطوة المنظومة الأمنية، وتأويل حركة التلويح التي يقوم بها حافظ الأسد من على الشرفات، هو أكبر دليل على حجم الاستخفاف والاستهتار الذي يتعامل به النظام مع من يفترض أنهم رعاياه، لكننا كنا نتقبل النكبات بصدر رحب، بل وندعو سوانا للضحك على خيبتنا..

أغلب الطن أن هذا النوع من الشائعات كان يصنع في أقبية المخابرات، ويتم نشره من قبل الأجهزة الأمنية، كمحاولة للتنفيس عن الناس من جهة، وكبلاغ مبطن للناس، مفاده بأن لا يتجرأ أحد ما على النظام، فهو لا يبالي بالناس إطلاقاً، وليس معنياً بكم الأرواح التي من الممكن أن تسقط في معركنه مع الشعب. لي فقط التنفيس، بل وجسّ نبض الشارع حول قرارات مجحفة يعتزم النظام اتخاذها، كما حصل مع رفع الدعم عن المازوت.

حكاية أخرى للنظام مع الجدران، فالشعارات كانت تملأ الجدران، وأقوال "الأب القائد والهتافات، كلها كانت مسخرة للسيطرة على العقول، وحدها الشعارات تكتب بخطوط جميلة على الجدران الملوّثة دائماً. وحين بدأ معركته مع الناس، بدأها على الجدران، وكان أي تقرير يفيد بأن شخصاً بعينه هو "الرجل البخاخ" كفيل بقتله فوراً، دون محاكمة، حتى أن الكاتب "عدنان الزراعي"، كاتب لوحة "الرجل البخاخ" في مسلسل "بقعة ضوء" ما يزال معتقلاً منذ قرابة الأربع سنوات.

بإسقاط هذه التماثيل اليوم، تتداعى حصون إمبراطورية الرعب، ويدرك الطاغية أنه لو اجتمعت كل جيوش الأرض في دعمه، لن يتمكن من إعادة السوريين إلى حظيرة الخوف كما في السابق، ولن تتمكّن أعتى جيوشه من المساس بطفل  يتهكّم عليه، ولهذا فهو يقتص من كلّ جدران البلد لأنها خذلته، مع أنه لطالما اعتمد على نفوذها في ترهيب السوريين..

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات