أطياف الذاكرة المعلقة على أسوار القلعة

أطياف الذاكرة المعلقة على أسوار القلعة

تسري الروح بك إلى هناك دون أن تدري..يكفي أن تسمع موشحاً حلبياً، أو مقطوعة ينشدها سلاطين الطرب، كي تتذكر أن حلب لا تموت!

نغمة واحدة من قدود حلب، كفيلة بأن تعيدك إلى حظيرة الذكريات، حارات حلب القديمة وزواريبها التي تقص عليك حكاية أعرق مدن الشرق، وتروي لك الأساطير عن جدرانها المعشقة بالطرب والفن الأصيل، والموزاييك، والقلوب المحبة للحياة..

حارات حلب القديمة، التي ما أن تطأها قدمك حتى تستشعر أنك أصبحت في عالم آخر، خارج الزمان والمكان: الجدران المتلاصقة، الأبواب المزخرفة، حدائق المنازل المفروشة بأصص الزرع، وإلى جانبها تتحلق مجموعة من النسوة، يرتشفن فناجين القهوة في "صبحية" مليئة بالفن والنميمة، وفناجين القهوة التي تتجول بين الأيدي لتستطلع طالع كل واحدة من الحاضرات..

تمضي في سوق المدينة، لترى باعة القماش الذين يعرضون عليك بضائعهم مستخدمين أقصى مواهبهم في الإقناع، ولأن التاجر الحلبي يمتلك مقدرة عالية على الإقناع، ويجود على أذنيك بألطف الإطراءات وأعذب العبارات، تجد نفسك تلقائياً، وقد خرجت من محله مثقلاً بالمشتريات، دون أن تدري كيف؟ أو لماذا؟ ولكنه الدوار الذي اجتاحك لعذوبة كلماته..

تجد بعدها قدميك تقودانك إلى باب النصر، فتقف مكتوفاً أمام الجامات التي تحتضن من الكتب أعرقها، إلى جانب تلك التجارية منها، وتنهال عليك العروض ، هم يعرفون انك لو لم تكن مثقفاً لما قادتك رجلاك إلى باب النصر..

ولا تنقضي جولتك تلك إلا وقد مررت ببوابة القصب والجديدة، لتسير فوق طرق متراصة من الحجر المرصوف..

تلك الحارات والزواريب، باتت جزءاً من ذاكرة صلبناها على جدران الأمس، فلا جولات في تلك الأزقة بعد أن ردمت تحتها فناجين القهوة، وغاصت في أعماق الأرض ثرثرات وقهقهات نساء حلب، وأمسيات العزف على العود، و"الخوجة" الحلبية التي تطرب النساء حتى ساعات الفجر الأولى في أعراس المدينة التي تمتهن صناعة الفرح..

تلك المدينة التي لم تكن تعرف النوم، فمشاوير المحلق كانت تبتدئ بعد منتصف الليل؛ مهما كان الحلبي بسيطاً فقد كان يجد متسعاً من الوقت للسعادة.. نهر "قويق" لم يفلح قط في أن يكون متنفساً لأهالي حلب، لأنه كان أشبه بساقية تنبعث منها أسوأ الروائح، ومع ذلك فقد حوله الحلبيون إلى واحة غناء، من خلال مروره بحديقتها العامة !

إلا أنّهم أوجدوا مصيفاً خاصاً بهم حول الكورنيش، وفي الغابات المحيطة به؛ كنت تشاهد فيما مضى الأرائك ممدودة على الأرض، وصناديق السيارات وما تحويه من "نارجيلة"، ومعدات حفلات الشواء، وفي الليل، كان صوت "صباح فخري" يصدح من مسجلة السيارة، على وقع قرقرة النارجيلة، فتسبح في الملكوت وأنت تحدق بدوائر الدخان، وتتماهى مع أنغام صباح فخري، التي لا تشبهها أية نغمة في الدنيا!

أبناء حلب اليوم لم يعودوا قادرين على التوجه للمحلق، فالدبابات والبراميل، والطيران لم يتركوا مكاناً لجلسات الصفاء، بات قدرهم أن يحولوا أظافرهم لمخالب تحفر الأرض، لتستخرج أشلاء أطفالهم من تحت الركام..

لم تعد لديهم المقدرة على سماع قدودهم التي صدّروها للعالم، فهم على موعد يومي مع موشحات من نوع خاص، قذائف وحاويات وبراميل..صوخوي وميغ وهيلكوبتر..أما "السّكْرين" فلم يعودا "خمراً وعين" ، بل تحولا إلى "جثث وأشلاء"!

سور القلعة الذي كان يقف شامخاً من أعلى تلة تحرس حلب من عاديات الزمان، والزلازل، والحروب، بات شاهد زور على عذابات أهل حلب، وتكسرت حجارته على نصال القهر، فباتت ركاماً يشي بالوجع الذي يعتصر قلب "الظاهر بيبرس" اليوم..حلب التي حماها برمش العين من مغول ذلك الزمان، وقلعته التي بناها ليحرس  من خلالها أرض الشام، باتت تستباح من ذات المكان الذي أشاده ليرد عنها نوائب الدهر..

أما "الكديش" الذي رثاه الفنان التشكيلي العالمي فاتح المدرس في قصة نشرها في مجلة الموقف الأدبي قبيل وفاته، كما لو أنه يرثي طقساً حلبياً لا يستعاد، فقد طاله الحريق في "سوق الزرب" ، كما طال السويقة، وأسكت أصوات باعة القماش في المدينة، وأوقف عقارب ساعة "باب الفرج"، أو أنه صار سراباً كما هو حال الجامع الكبير..

لم يبق للحلبي إلا أن يمتطي الريح لتحلق روحه فوق الأمكنة التي لطالما عشقها، فما تبقى من حلب لا يمت لحلب في شيء.. فلا "جديدة" في حي "الحمدانية"، و "حلب الجديدة" لا تعوض سوق "المْدينة"، والصوت الأتي من"شارع النيل" لا يستطيع أن يوقظ عقارب "ساعة باب الفرج" من غفوتها..

بالرغم من كلّ هذا الألم، فالحلبيون بارعون في استحضار الطقس الحلبي أنى ارتحلوا، من الأطباق إلى النغمات، وليس انتهاء بالجلسات والسهرات، وتبقى حلب أشبه بالأميرة النائمة التي تنتظر الفارس الذي سيوقظها من غيبوبتها لتعود للحياة عروساً كما كانت منذ الأزل، ولكنها في كل يوم تدفن في ثراها عريساً جديداً، فأهل حلب هم أعلم الناس بأن "من يطلب الحسناء...لم يَغْلًه ُالمهر"!

التعليقات (1)

    قيس الحسن

    ·منذ 8 سنوات 6 أشهر
    جميل جدا ما قلتيه عن حلب حلب مدينة الطرب والكبب
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات