خطوطهم الحمراء.. وخطوط الشعب

خطوطهم الحمراء.. وخطوط الشعب
منذ أن أعلن الشعب السوري ثورته على الحكم الشمولي والدولة الأمنية والظلم والفساد والطائفية، بدأ الجميع "يتمشطر" على هذا الشعب المسكين، وقبل النظام أن يساوم الجميع، فالتدخل والتسلط الخارجي مُرحّب به مقابل تقديم الدعم لاستمرار حياة النظام، فكان أول من سلّم القرار السوري لغير أهله.

صار للكثيرين كلمة في سورية أقوى من كلمة النظام، وراح كل مُتدخّل يسيّر السفينة وفق ما يريد ويعتقد أنه صاحب الأمر والنهي، فيسمح ويمنع، ويحدّد الحد الأدنى والأعلى، ويرسم الخطوط الحمر كما يشاء، فباتت سورية ومستقبلها خليطاً من الخطوط الحمر المتشابكة.

إيران، الداعم الأساسي للنظام السوري ونسغ حياته، مصدر المستشارين العسكريين والبراميل، ومصدر الحقد والتفكيك، كانت الأكثر انتهازية، فوضعت خطوطها الحمراء وفقاُ لما تُمليه عليها إيديولوجياتها الطائفية وسياساتها الاستعمارية وأحلامها التوسعية، فقالت إن الأسد خط أحمر ولن تسمح بسقوطه، ولتبرير طائفيتها قالت إن الأضرحة والمقامات الشيعية خطوط حمراء لن تسمح بمسّها، رغم أن أحداً لم يلتفت إلى وجودها، ولحماية أذرعها العسكرية وميليشياتها العابرة للحدود قالت إن "حزب الله اللبناني" خط أحمر لن تسمح بسحقه، فضلاً عن خطوط حمراء صغيرة هنا وهناك.

روسيا الحمراء، التي حمت النظام بسلسلة من (الفيتوهات) وبحمل كبير من الأسلحة، وضعت خطوطاً أكثر صفاقة، فرغم ادّعائها بأنها لا تهتم لمصير الأسد، وأن غايتها الحفاظ على الدولة السورية، إلا أنه تبيّن أن الأسد وأسرته، ورموز نظامه، وديكتاتوريته واستبداده، كلها على رأس خطوطها الحمراء، كما أكّدت على أن الساحل السوري ومنفذها الاستراتيجي على المتوسط خط أحمر فأرسلت جيشها الأحمر إليه لتحميه من السوريين الذين يحرصون عليه أكثر منها، ورغم معرفتها بأن النظام حوّل مهمته من جيش وطني إلى جيش يقتل السوريين ويدافع عن وجود زمرة منتفعة، إلا أنها أعلنت أن هذا الجيش خط أحمر بالنسبة إليها.

"حزب الله" اللبناني ذو التوجّه الديني الطائفي والمنشأ الطارئ والولاء الإيراني، أعجبته اللعبة، ورأى أنه ليس أقل سطوة وقدرة من الآخرين على رسم الخطوط الحمراء، فرسم خطوطه الحمراء وفق هواه ومصلحته، وقال إن الأسد وأزلامه خطوط حمراء، والزبداني والقلمون والرستن والقصير خطوط حمراء، وعدم الثأر للحسين وغيره أيضاً خطوط حمراء، والسيدة رقية وسكينة وغيرهن خطوط حمراء، رغم أنهن مصانات في المخزون الشعبي السوري.

أما النظام السوري نفسه، فقد وضع خطوطاً حمراء كيفما شاء، مستقيمة ومائلة ومتعرّجة، تقاطعت وتضاربت، وسقطت في أول اختبار، فقال إن السيادة الوطنية خط أحمر، وهو أول من استدعى الغرباء لانتهاكها، وقال إن التدخل الخارجي خط أحمر، وكان أول من استدعى كل أمم الأرض المارقة للتدخل، وقال إن الوطن خط أحمر، وتبيّن أن (الكرسي) هو مفهوم الوطن بالنسبة له ولا شيء غيره، وشدّد على أن "البوط" العسكري خط أحمر، والجميع يعرف أنه يعني الأمن والمخابرات وأجهزته القمعية ليس إلا، ووضع أيضاً خطوطاً حمراء غير مرئية، فالتخلي عن المال المنهوب خط أحمر، والتخلي عن إذلال العباد واللعب بمصائرهم خط أحمر، وانتهاء حلم الوراثة والتوريث خط أحمر.

أما أمريكا ومعها إسرائيل، فقد وضعت خطوطها أيضاً في ظل هذه "المعمعة"، ولكن اللافت للنظر أن كل خطوطها الحمراء وُظّفت بالنهاية لصالح النظام، فقالت إن استخدام الأسلحة الكيماوية خط أحمر، لكن النظام استخدمها تكراراً ولم تتدخل إلا عندما طفح الكيل واستملت ما تيسّر لها منها وانتهى الأمر، ثم أعلنت أن اعتدال مقاتلي المعارضة خط أحمر، لكن تبيّن أنها وضعته كحجة لتبرر سلبيتها، فجهاز (كشف الاعتدال) لم يُمرّر المعارضة السورية المسلّحة فمنعت عنها الدعم، كما قالت إن وصول صواريخ ل"حزب الله" في لبنان خط أحمر، ولكنها هي نفسها لم تتحرّك حين كانت هذه الصواريخ تتسرّب من إيران للحزب عبر سورية كالسيل قبل الثورة.

كل الخطوط الحمراء التي وضعتها هذه الجهات هي خطوط هشّة، يمكن أن تُغيرها المصالح الاستراتيجية والطارئة، وأن تغيرها التكتيكات والمساومات، فهي خطوط حمراء مرسومة بحبر يُمحى بسهولة عندما تقتضي الحاجة لتغيير مكان الخط أو إزاحته وفقاً للمصلحة.

وحده الشعب السوري المُنتفض والثائر كانت خطوطه الحمراء مختلفة منذ البداية، فاعتبر الوحدة الوطنية خط أحمر، وتقسيم سورية خط أحمر جداً، والحرب الطائفية خط أحمر، وصرخ المتظاهرون ومن بعدهم الثوار ثم المقاتلون بأن وحدة سورية أمر مفروغ منه وتقسيم سورية ممنوع، وهتفوا بمظاهراتهم لوحدة مصير السنّي والشيعي والعلوي والدرزي والمسيحي، ونادوا بسورية بلداً لجميع مكوناتها الدينية والقومية والإثنية، وحذّروا من النهج الطائفي للنظام، بل وحاولوا إقناع لشعب بالتمييز بين النظام وطائفته وأن النظام شيء وطائفته شيء آخر.

عنف كل الجهات صاحبة الخطوط الحمراء آنفة الذكر دفعت أصحاب الثورة لوضع خط أحمر بديل عن كل خطوطهم الحمراء، خط أحمر عريض قانٍ يرفض بقاء النظام، خط رسموه بدماء مئات ألوف الضحايا، وهو ببساطة حبر لا يُمحى، حبر سيبقى ثابتاً حتى يتحقق لهم ما يريدوه.

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات