فرنسا ... بين التطرف وقيم المواطنة

فرنسا ... بين التطرف وقيم المواطنة

ما إن صحت فرنسا من الصدمة الأولى للهجوم الإرهابي، الذي طال العاصمة الفرنسية "باريس"، حتى سارعت إلى تحريك طيرانها لضرب مدينة الرقة، بشكل عشوائي، وحشي، ومكثف، مستهدفة الرقة بمن فيها من نساء، وأطفال، وشيوخ، بذريعة كونها حاضنة شعبية للإرهاب!

إذا انطلقنا من هذا المنطلق، نجد أنه كان الأولى بفرنسا أن تقوم بضرب باريس بالذريعة نفسها، فالمكان الذي يؤوي خلايا تابعة لـ"داعش"، هو بالضرورة حاضنة شعبية للتنظيم، وينبغي القضاء عليه بكل السبل المتاحة، من أجل إنقاذ العالم من خطر هذا التنظيم الإرهابي.

في الحقيقة، ليست هذه القضية، وحدها التي تظهر التعاطي الغريب والساذج للدول الغربية، مع ملف التطرّف، وتحميل المدنيين تبعات سياسات اقل ما يمكن القول عنها، أنها سياسة ناجمة عن الجهل.

في الملف الإنساني، كثيراً ما انسحبت المنظمات الإنسانية- الأوروبية منها تحديداً- من دعم أي منطقة، أو تأمين احتياجاتها، سواء اكانت الطبية، أو الغذائية، بذريعة تواجد تنظيمات متطرفة أو إرهابية في هذه المناطق، تاركة المدنيين تحت رحمة هذه التنظيمات، فيكونون أمام أحد خيارين: إما القبول بالعروض المغرية، واللجوء إلى المساعدات التي تقدّمها لهم، وبالتالي السكوت عن تواجدها بينهم، لأنه ما من خيار آخر، أو النزوح  من المنطقة، إلى خارج مناطق نفوذ هذه التنظيمات، وبالتالي تركها بشكل كلي للتنظيم، حاضنته الشعبية، والطبقة الأشدّ فقراً من أبناء البلد، ممن لاحول لهم ولا قوة، ولا يملكون إلا القبول بما يمنح لهم، و ما يفرض عليهم.

فالكثير من المنظمات الإنسانية، علّقت مساعداتها في مدن وبلدات شمال محافظتي حلب وإدلب، بذريعة تواجد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" يومها، في هذه المناطق، ما سمح بتنامي نفوذ هذا التنظيم في بداياته، بالمقابل فمناطق تواجد  وحدات الحماية الكردية ، لا تتلقى دعماً إنسانياً، لتلبية احتياجات النازحين من المحيط المجاور، لأنه منبثق عن حزب العمال الكردستاني، المدرج ضمن لائحة التنظيمات الإرهابية، ما أسهم في انجرار العامة من الأكراد، وراء سياسات التنظيم الانفصالية، وسكوتهم عن انتهاكاته، الأمر الذي زاد من حدة التوتر بين العرب والأكراد، نتيجة احتكار المساعدات المقدمة من وحدات الحماية على الموالين لسياساتها، الذين هم من الأكراد، بالطبع.

غير أن سياسات الدول الغربية، على أراضيهم، ليست أكثر حكمة من تلك التي على الأرض السورية؛ هذه الدول لم تتعظ من أحداث العنف التي ضربت بلدانهم، إبان أحداث 11 أيلول، وردّات الفعل العنصرية تجاه المسلمين، كعرض أفلام مسيئة عن النبي الأكرم، أو رسوم الكاريكاتير التي تسخر من المسلمين ورموزهم، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل اتخذ شكلاً إجرائياً في بعض البلدان، وبالتحديد فرنسا التي منعت ارتداء النقاب.

فمن غير المقبول في بلد ديمقراطي كفرنسا، أن يحتجز والد وشقيق المشتبه به، دون حتى التأكد من كونه الفاعل، لمجرّد وجود جواز سفر مزعوم في منطقة التفجير، وهو ما يشكّل بحد ذاته انتكاسة لقيم الحق والعدالة، التي يفترض أنها أهم الحقوق التي يكفلها دستور الجمهورية الخامسة، فضلاً عن كونه إجراء عنصرياً ضد كل مسلم على الأراضي الفرنسية، وليس فقط اللاجئين السوريين؛ فتقفز إلى الذاكرة مباشرة أحداث العنف التي ضربت فرنسا عام 2005، حيث كان نيكولا ساركوزي- الرئيس الفرنسي السابق- حينها وزيراً للداخلية، والتي انطلقت من الأحياء التي يسكنها مهاجرون من أصول عربية ومسلمة، غير أن أحداً لم يؤكّد أنها ذات صبغة إسلامية، ومع ذلك فقد منع النقاب في فرنسا، وبدأت موجة من العنصرية تجاه المسلمين، إلى أن أصدر اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا فتوى بتحريم المشاركة في أعمال العنف.

على الرغم من اعتراف ساركوزي يومها أن ما جرى ناجم عن تراكمات ثلاثين سنة، ويحتاج وقتاً كبيراً لحلحلته، في إشارة واضحة إلى أن الدولة الفرنسية هي من تتحمل تبعاته وليس المسلمون، ولكن ردة الفعل الأولى كانت هي التضييق على المسلمين!

كل هذه العوامل، تشكل بيئة خصبة لتنامي ظاهرة التطرف الديني، وتؤدي إلى بروز تنظيمات راديكالية، ومع ذلك فالمحاولات حثيثة لإثبات أن هذه التنظيمات مستوردة من الشرق، ابتداء من أفغانستان، وباكستان، وليس انتهاء بسوريا، على الرغم من أن الإحصائيات التي أصدرتها صحيفة واشنطن بوست الأمريكية تؤكد أن أوروبا هي أكبر مصدر للدواعش، وتتصدّر فرنسا القائمة بواقع 1200 مقاتل، انضم إلى تنظيم الدولة خلال الفترة بين تشرين الأول 2014، وكانون الثاني 2015، وبحسب بعض التسريبات، فإن بينهم ضباطاً فرنسيين سابقين!

ما جرى في باريس هو اختبار حقيقي لحكمة هولاند في التعاطي مع ملف اللاجئين السوريين، والجالية المسلمة التي تقدر بنحو 6ملايين مسلم في فرنسا، فإما أن يستفيد من حكمة دوفيليبان، في عام 2005، ويلجأ إلى مرجعية تريحه من عناء الاصطدام بهم، خاصة وأن الأخير، والذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء يومها، منحدر من أصول مغربية، أو أنه سيلتجئ إلى التصعيد، ما سيفتح الأبواب لاحتمالات كثيرة، ليست في صالح أحد، ويبقى الخيار الثالث أمامه، في ضرب أفراد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في قواعدهم، على أرض فرنسا، قبل أن يتمكنوا من الوصول إلى  سوريا، والعراق!

التعليقات (1)

    سوري

    ·منذ 8 سنوات 6 أشهر
    الديمقراطية وحقوق الانسان لا تعني حماية أعداء هذه المفاهيم.....فلا داعي لتذكير الغرب بهذه المفاهيم وانتقاده عند كل اجراء يتخذه بعد عمل ارهابي يقوم به المسلمون المتطرفون..... تريدون من الغرب كامل الحقوق والمواطنة والمزايا وانتم تضمرون له الكره والتعصب
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات