المهاجرون العرب بين الأصالة والانفتاح ...

المهاجرون العرب بين الأصالة والانفتاح ...

ربما لم تواجه أمة من أمم الارض، مشكلة في التعايش والتعامل مع أمم أخرى بقدر ما يعيشه اللاجئون الحاليون في الدول الغربية، فنحن هنا أمام الجيل الرابع أو ربما الخامس من المهاجرين، إن افترضنا بدء الهجرات مع أوائل القرن العشرين مع حدوث المجاعات المتشكلة من الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية..

مع الموجة الأولى والثانية من المهاجرين، لم يكن المهاجرون تحت مجهر المراقبة كما هو الحال في هذه الأيام، حيث لم تكن تلك الموجات مرتبطة بالمفاهيم الحالية التي ظهرت بعد نظرية العولمة والنظام العالمي الجديد وسقوط مبدأ ثنائية القطب في العالم..

حيث عمدت مفاهيم مثل نظرية (صدام الحضارات) لصمويل هنتيغتون و(نهاية التاريخ) لفوكوياما، وسياسات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة من جهة، وظهور تيارات الجهاد الإسلامي والتنظيمات المتطرفة مثل القاعدة من جهة أخرى، على تأجيج الرأي العام اليميني في طرفي العالم الغربي والإسلامي، فالتطرف ينتج التطرف ولا يمكن إنتاج خطاب حادٍّ لفظي أو عسكري دون توقع انبثاق نظير له على الطرف الآخر، فانعدام الديمقراطية وطغيان الأفكار الشمولية أديا إلى انهيارٍ تامٍ في مفهوم الدولة الوطنية العربية خصوصاً، مما أدى إلى حصول موجات كبيرة من الهجرات التي أعقبت الإحباط الناجم عن إفشال ما سمي بالربيع العربي وتحويله إلى فوضى ضخمة جداً مترافقة مع عجز حقيقي في عموم المنطقة العربية عن تأمين أبسط احتياجات الناس. على الجانب الآخر شعر المهاجر العربي والمسلم بشكل أدق، الذي يمتلك وثائق المواطنة الغربية، بتواصل حقيقي مع نبض الشارع في بلده الأصلي تجسّد في أمله بإزالة أسباب هجرته من بلده الأم، من تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والديمقراطية وإمكانية مساهمة الأفراد في بناء الدولة دون اعتبارهم رعية فقط. وفي الجهة الأخرى شعر أن السكان الأصليين لم يعد يرونه كمواطن مختلف ثقافياً عنهم فقط، بل ومرتبط بشكل من الأشكال مع النتائج المتطرفة للصراع في الشرق الأوسط التي أعقبت الفوضى التي تريد إفشال الربيع العربي.

ولكن ما حصل هو تخاذل الغرب عن دعم الانتفاضات الشعبية الداعية إلى الحرية وازدياد العنف بشكل لا يصدق في الدول العربية المجاورة له، هذا التخاذل ولّد لوماً بل أكثر من لَوْمٍ وربما حقد على الغرب الذي ورّط شعوب الجهة الجنوبية من البحر المتوسط في فوضى، لم يساهم في حلها حتى الآن من يملك مفاتيح مجلس الأمن والقوة العسكرية الكبرى في العالم. 

يسار الغرب يريد انصهاراً كلياً للمهاجرين إلى أوروبا، يذوب فيها اللاجئون ويخلعون ثقافتهم وعاداتهم ريثما يتحولون إلى مواطنين منخرطين في العمل والتنمية الأوربية، بينما يريد اليمين منهم ألا يكونوا أصلاً، وإن كانوا فيجب عليهم أن يتحولوا إلى ماكينات أو فرق تعمل في الخدمة والبناء دون حقوق أو شروط أو مواطنة، بينما يريد المهاجرون بيئة صحية لهم لتربية أولادهم دون التخلي عن ثقافتهم وشروطهم التي غادروا من أجلها بلدانهم الأصلية، يريدون أوطاناً بديلة، عوضاً عن أوطانٍ خذلتهم وقتلتهم وانتهكت كراماتهم الإنسانية والمدنية، يمارسون فيها حتى نزواتهم ومحرماتهم الممنوعة عليهم في بلدانهم الأصلية.

ربما ما لم يستوعبه الغرب هو أن الفردانية العربية، وبالتحديد الآتية من بلاد الشام تكاد توازي لا بل تبز الفردانية الغربية، ولكن ما ينقص الفرد العربي هو الإطار المؤسساتي الذي يجعل العمل الفردي ينخرط في إطار العمل الجماعي لإنجاز دولة حديثة وعصرية، هذا أيضاً ما لم تؤمن به الدول الأصلية التي ينطلق منها المهاجرون واللاجئون.

وهذا هو بالتحديد سبب عدم قدرة الغرب على هضم الكتل الكبيرة من المهاجرين، فالفردية العالية للمهاجر السوري أو العربي تكاد تكون نقمة عليه، وحجر عثرة في اندماجه المطلوب في المجتمعات الغربية.

ورغم وصول عديد المهاجرين إلى مناصب قيادية في الغرب في الوزارات والإدارات، إلا أن السواد الأعظم من المهاجرين لا يزال يعيش خلف جدران العزل والتهميش، وهذا هو حال المهاجرين في فرنسا على سبيل المثال، تلك البلد التي تحوي ستة ملايين لاجئ مسلم يعيش معظمهم في الضواحي المحيطة بالمدن الكبرى، ويواجهون تهميشاً في التعليم والعمل وحتى التوظيف، وليست تعيينات حكومة ساركوزي اليمينية لعرب ومسلمين سوى نسخة مكررة لتعيينات الحكومات العربية للنساء في مناصب عليا، فكلا الحالتين هو قناع يدّعي الاهتمام بالآخر. إن انتفاضة الضواحي التي شهدتها باريس في عام 2005 واستمرت 19 يوماً نتيجة احتراق شابين مغربيين صعقاً بالكهرباء، ولا تفجيرات ميترو باريس قبلها في العام 1994، إلا لتوضح أن مسألة تهميش اللاجئين هي السبب الرئيس لتحويلهم إلى حاضن اجتماعي لأي شكل من أشكال العنف. 

ليس الاندماج هو الحل كما يطلبه الغرب، بل الحل هو القبول بالآخر من كلا الطرفين، فسلاح النرجسية الذي يملكه مهاجرون تربّوا عليه في بلدانهم الأصلية هو سلاح قاتل لهم، وسببه طبعاً هو مناهج التربية والتعليم في بلدانهم الأصلية التي تضخ في رؤوس الأجيال فكرة أننا أفضل أمة أنجبت للعالمين، وتعيش على أمجاد العلماء والفلاسفة والمفكرين منذ عشرات القرون وكأنهم ولدوا البارحة. وإن كان ذلك كذلك، فلماذا تتدفق سيول اللاجئين مشياً على الأقدام نحو الأمم الأخرى، هذه النرجسية جعلت المهاجرين يطالبون مثلاً بتعديلات على مفهوم الحريات الذي بني عليه المجتمع الغربي من أجل احترام المحرمات والمقدسات العربية والإسلامية، كلا الطرفين تمسك بأفكاره وكلا الطرفين تطرّف في تمسكه بهذه الأفكار، فبدأ الصراع المرشح للتزايد والتشعب والصدام، فإن لم يتنازل الطرفان في هذا الملف فلن تكون أوروبا والبلدان المصدرة للاجئين سوى ساحات للصراع والصدام الحضاري والعسكري.. في عالم لم تعد فيه الأزمات محصورة داخل حدود معينة، عالم متشابك مترابط حتى في الأزمات.

التعليقات (1)

    سمر جوخدار

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    مقال رائع تحليل منطقي واختصار فكري مهم يجب على الغرب ان يفهمه هذا المقال يجب ان يتوجه الى الغرب وليس للعرب الى البنتاغون
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات