النظام السوري والنظام العالمي: كانت علاقة فهل تُستعاد؟

النظام السوري والنظام العالمي: كانت علاقة فهل تُستعاد؟
على وقع انضمام فرنسا إلى جوقة الدول الغربية التي تعمل على تعويم بشار الأسد لقيادة المرحلة الانتقالية، أكد الكاتب السوري "رستم محمود" في مقال له بصحيفة الحياة اللندنية أن بعيد هجمات باريس توجهت السياسة الفرنسية والعالمية للتركيز على هذه التنظيمات "المُتطرفة" على حساب تأجيل مسألة إزالة الأسد.

وقال الكاتب ما أن انتشر خبر الهجمات الإرهابية الفظيعة التي طاولت المدنيين الباريسيين، حتى اندلع نقاش سوري وشرق أوسطي واسع على شبكات التواصل الاجتماعي أساسه التساؤل عن فداحة تأثير ما جرى في المسألة السورية، وأغلبه المُطلق، وربما المُحق، ذهب إلى التحليل المباشر الذي يقول ببساطة: "الأكيد أن هذه الهجمات قام بها متطرفون إسلاميون، وأغلب الظن أنهم ينتمون لداعش، وأنهم بفعلتهم سيوجّهون الرأي العام والسياسة الفرنسية والعالمية للتركيز على هذه التنظيمات المُتطرفة، وبذا سيؤجلون مسألة إزالة الأسد، بل ربما سيزيد الاعتقاد الأوروبي والعالمي بأهمية الاعتماد على الأسد والأنظمة الشبيهة لمواجهة هذا التطرف، حيث ستغدو مسألة الديموقراطية ثانوية التداول، وسيجني الأسد جراء سوء التفاهم العميق الكثير من المكاسب، التي ستكون على حساب الشعب السوري".

ما ينقــص تلك القـــراءة، على رغــــم التسليم بموضوعيتها من حيث المبــدأ، هو عـــدم قدرتها على الفصل بيـــن ما يمكن أجهزة الاستخبارات وأنظـــمة المعرفة في مــؤسسات الدولة الفرنسية أن تعرفه عن هذه المســـألة وعلاقاتها المركبة والمعقـــدة مع النظـــام السوري، وبيــــــن ما يمكن أن يُصاب به الرأي العـــام الفرنســـي الاجتماعي والثقافي من سوء فهم من جانب آخر.

فإن كان الأخير سوف ينزاح إلى التفسيرات البسيطة والمباشرة، عبر ربط المسألة بهوية المهاجمين وأيديولوجيتهم وصراع الحضارات وبُنية الأديان وتأثيرات المهاجرين وعقبات تغيير الأنظمة في الشرق الأوسط وخطاب الكراهية الذي ينشره المتطرفون، وبطريقة مُجردة ومقطوعة الصلة عن أحداث الشرق الأوسط وجذور المسألة السياسية، فإن ذلك لا يمكن أن ينطلي على أجهزة الاستخبارات ومؤسسات المعرفة السياسية في قلب نظام الحُكم الفرنسي.

أجهزة الاستخبارات ومؤسسات المعرفة السياسية الفرنسية، والغربية عموماً، تُدرك بعمق دور الأبوين الشرعيين لهذا الإرهاب الذي طاول الأبرياء الباريسيين، وكيف أن هذين الأبوين كانا على الدوام ولاّدين لعشرات التنظيمات وآلاف الإرهابيين الذين ما كانوا بسذاجتهم وبؤسهم سوى الحلقة الأخيرة والأسهل لتلك التراتبية الفظيعة في العلاقات السياسية المركبة لصناعة هذه التنظيمات.

أحد الأبوين هو السنوات الطويلة من الاستبداد الأرعن، التي فسخت وحطمت كُل الديناميات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية في المنطقة التي قدم منها هؤلاء الإرهابيون، وحولت مئات الملايين من البشر جنوب المتوسط مجرد أرقام في مزارع الأنظمة الضخمة، مجرد شعوب أشباه أقنان، منذورين لعقاب فظيع فيما لو فكروا لبرهة في إمكان تغيير مصائرهم البائسة. مئات الملايين عاشوا دون تعليم ذي مضمون ورؤية، وبأحوال اقتصادية وحياتية مُطعّمة بالذل في كل تفاصيلها، وفي ظلال أجهزة أمنية وحشية السلوك، ومن دون أي شكل من الحماية الحياتية. لذا فقدت هذه المُجتمعات أدنى درجات التحصين الذاتي والتنمية الإنسانية، وبات خطاب الهويــة والكراهية والمظلومية، خصوصاً عبر استخدام الدين الذين يملك شُحنة تعبيرية وجدانية كُبرى، يلقى آذاناً صاغية في أعماقهم. وما كان صراخ السوريين في السنوات الأولى لثورتهم "يا الله ما لنا غيرك يا الله" إلاّ تعبيراً بسيطاً وحقيقياً لتلك الثنائية الفظيعة لعراء المجتمعات من أي حماية، وهو أنها المحض المقابل لجبروت النظام الحاكم.

على الدوام كان النظام السوري أكبر معبّر على ذلك الشيء، بنرجسيته ووحشيته وطائفيته وادعائــــه الطهرانية والتفوق على كل المجتمعــات والأنظمة المُحيطة به، ولطبيـعة نُخبته الحاكمة المُغتربة. كــان بكـــل ذلك، أكثر الأنظمة تعبيراً عـــن ذلك الجوهر من الاستبداد المديد، وكانت جميع أجهزة الاستخبارات والمعرفة في الأنظمة الغربية على إدراك عميق بذلك. أولم يكن المفكر الاجتماعي الفرنسي ميشال سورا هو من وسم هذا النظام قبل ثُلث قرن بـ "الدولة البربرية"؟ أولـــم تكن تلك العبارة اختصاراً لكُل شيء عاشه السوريون في ما بعد؟

ومن جهة أخرى تقف شبكة العلاقات الفظيعة للنظام السوري مع مؤسسات الإرهاب الإقليمي والعالمي وتنظيماته، من "جبهة تحرير فيتامي" الفيليبينية حتى الجيش الجمهوري الإيرلندي، مروراً بعشرات التنظيمات الإسلامية المُتطرفة، وكيف كان اختراق النظام وإداراته تلك التنظيمات أهم أداة لتعاون النظام السوري مع نظرائه من الأنظمة العالمية، وأن بشار الأسد أشار عشرات المرات إلى أن ذلك التعاون الأمني مرهون على الدوام بالقبول السياسي له ولنظامه من النظام العالمي. تُدرك أجهزة الاستخبارات الغربية بدقة بالغة حجم تورُّط النظام السوري في تلك التنظيمات، إما إدارة أو اختراقاً، وتُدرك بعمق أكثر مدى قدرة النظام السوري على استغلال أدواته تلك في إعادة خلق شرعيته وكيلاً إقليمياً لدى النظام العالمي قادراً على تحطيم تلك التنظيمات، ومن طرف آخر قُدرة النظام السوري على الإيحاء أن المُشكلة هي من المجتمعات التي تُصدّر هذه التنظيمات المُتطرفة، لذا فإن الأنظمة الغربية بأمسّ الحاجة إلى نظام كالنظام السوري لقمع هذه المجتمعات.

باختصار، فإن هذه الأجهزة والمؤسسات الغربية أكثر من يعرف أدوار النظام السوري واختراقاته الأخطبوطية لكل التنظيمات الإسلامية، وبالذات منها أفرع "داعش" وأذرعه، إما عبر أجهزته الأمنية، أو عبر مئات الضُباط البعثيين العراقيين، أعمدة الإدارة في "داعش".

مجموع الحقيقتين هما جوهر ما يجري في المنطقة منذ نصف قرن، استبداد مديد أرعن مع اختراق الأنظمة الحاكمة للتنظيمات الحاكمة، حيث كان "داعش" التتويجَ السياسي/ البصري الأكثر تعبيراً عن ذلك.

إن كانت تركيبيـــة ذلك وضبـــابيتــــه قد تنطلي على الرأي العام، فـــإن المسألة بالغة الوضوح لــدى أجهزة الاستخبارات ومؤسسات المعرفة السياسية في فرنسا والغرب، لأنها بالضبط، منذ نصف قرن وحتى الراهن، كانت على احتكاك وتفاعل مباشر مع أجهزة النظام السوري الغارقة في ذلك، وضبطته أكثر من مرة متلبّساً بأفعال إرهابية لا تقل فظاعة عما جرى في باريس.

لكن تبقى مُلاحظة صغيرة: إذا أصرّت أجهزة الاستخبارات ومؤسسات المعرفة السياسية على الغرق في سوء الفهم الذي قد يطاول الرأي العام، والذي كانت أولى علاماته ما خرج به اجتماع فيينا الثاني، الذي لم يأت على أي ذكر للأسد، فإن ذلك يعني بالضبط المزيد من الشراكة بين النظام العالمي ونظام الأسد، إن لم يكن بطريقة ذاتية فالأكيد بطريقة موضوعية.

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات